توقيت القاهرة المحلي 11:34:47 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نبوءةُ الرجل المثقف!

  مصر اليوم -

نبوءةُ الرجل المثقف

بقلم: فاطمة ناعوت

(جاء علينا حينٌ من الدهر كانت فيه كلمةُ «مثقف» تعنى «صاحب مقام رفيع». كان احترامُ الثقافة والمثقفين جزءًا لا يتجزأ من قِيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة «أفندى» وتُسمّى العامل الكفءَ المثقف «أُسطى» أى «أستاذ».
وذاك الحينُ من الدهر ظلَّ مستمرًّا طوال حياة الشعب المصرى، حين كان المثقف… من: «رفاعة رافع الطهطاوى» إلى «محمد عبده» إلى آخر كوكبة العقول المضيئة التى ظل مجتمعُنا ينظر إليها، مثلما ينظرُ إلى مصادر الضوء تُنير له وجودَه وحياته، ويرفعها إلى مستوى التبجيل العظيم والقيمة الخالدة.

ولم يكن حظُّ المثقفين من خريجى الجامعة المصرية بأقل؛ فقد كانوا علماءَ فى تخصصاتهم، وكانوا كذلك من كبار مثقفى عصرهم. والذين يُدهشون كيف كان الجرَّاحُ العظيم «على باشا إبراهيم» عضوًا مؤسِّسًا ومسؤولًا عن البرامج فى «المجلس الأعلى للإذاعة المصرية» عند إنشائها، ربما لا يعرفون شيئًا عن «على إبراهيم»: «المثقف» المُلمّ، العالِم. ولا أعتقد أن بلدًا من بلاد العالم جُبِل شعبُه على تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا.

إن المكانةَ التى رُفع إليها «طه حسين»، «العقاد»، «أحمد حسن الزيات»، «المازنى»، «محمود عزمى»، «سلامة موسى»، «توفيق الحكيم»، «نجيب محفوظ»، «حسين فوزى»، «لويس عوض»، «أحمد أمين»، «أحمد زكى»، «هيكل»، «مصطفى مشرَّفة»، «زكى نجيب محمود»، (وأضيفُ إليهم «يوسف إدريس»)، تُثبت أننا بالسليقة «شعبٌ يُقدِّس المعرفة والثقافة»، شعب فى أساسه متحضر وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا.. بل إن الاحترامَ الذى يحظى به «حكماءُ زمانهم» من الفلاحين الأُمِّيين والعمال وسكان النجوع والحارات، احترامٌ لا يمكن للإنسان أن يُخطئه إذا أُتيح له الاحتكاكُ الكافى بالحياة اليومية فى أقل مستوياتنا الاقتصادية والمعيشية.

ماذا إذن حدث فقلب أمورَنا رأسًا على عقب، حتى أصبحت كلمة «أفندى» تُقال للسخرية، وكلمة «مثقف» تُذكر من باب التوبيخ و«التريقة»، وكلمة «ثقافة» يتحسَّسُ لدى ذكرها بعضُ المواطنين أنوفَهم وكأنما هى شىء لا يُطاق؟! ماذا بالضبط حدث؟… دفعت «ثورة يوليو» ١٩٥٢ إلى الساحة الوجودية جماهيرَ غفيرةً من الطبقة المتوسطة والصغيرة التى كانت تحيا على هامش الحياة، ووفَّرت لها التعليمَ والماء والنور والمستشفيات، وفتحت لها أوسع المجالات للكسب، ولكنها أبدًا لم توفِّر لها ما هو فى رأيى أهم من هذا كله؛ وهو «الإشعاع الثقافى» الذى يُحيلها إلى كائنات متحضرة منظمة، ويجعلها كلما ارتقت اقتصاديًّا ترتقى سلوكيًّا وتعامليًّا وإنسانيًّا وفكريًّا. إن انعدام المحصول الثقافى للإنسان يجعل الدابّةَ أحسنَ منه. فالإنسانُ مزوَّدٌ بعقل لابدَّ أن يعمل.

وإذا لم يعمل فى اتجاه صالح، فسوف يعمل فى اتجاه خاطئ وربما إجرامى. إننا ننحدر ثقافيًّا وسلوكيًّا بدرجة خطيرة. والغوغائية، نتيجةً لانعدام الثقافة، تسودُ إلى درجة تُهدد فيها باكتساح وجودنا كله. ومع وجود هذه الكميات المخيفة من البشر فى هذا الحيِّز الضيق؛ فإننا ذاهبون إلى كارثة محقَّقة، لا قدر الله، إذا لم نُولِ رفع المستوى الفكرى والثقافى للشعب الأهمية القصوى الجدير بها. الثقافةُ أخطر من أن تكون من كماليات الحياة. الحياةُ نفسها هى الوجود المثقف للكائنات).

لعلّك عزيزى القارئ تشعرُ أنك قد قرأت تلك الكلمات من قبل. وصدقَ حدسُك. فهى قطوفٌ من مقال «أهمية أن نتثقف يا ناس»، الذى كتبه المبدعُ الإصلاحى الكبير الدكتور «يوسف إدريس» باكيًا على تدهور حال «الثقافة» فى الشارع المصرى قبل أربعين عامًا! كتبه بقلمٍ غاضب من عدم توقير المثقفين واحترامهم، على عكس ما دأب عليه الشعبُ المصرى طوال تاريخه! وغدا ذاك المقالُ الصارخُ عنوانًا وتصديرًا لكتاب شهير أصدره «يوسف إدريس» عام ١٩٨٤.

وما أشبه اليومَ بالبارحة! تحققت نبوءةُ الرجل «المثقف» وصارت «الثقافةُ» اليومَ مدعاةً لسخرية بشر يخطئون فى كتابة أسمائهم! شخصٌ يعجزُ عن كتابة جملة واحدة ناجيةً من أخطاء النحو والصرف والإملاء، لكنه قادرٌ، بكل جسارة، على سبّ وتحقير وتجهيل والسخرية من مثقفٍ كبير، أو مفكّر رفيع المقام، أو أديب مرموق يرافقه الإجلالُ والتوقير أينما ارتحلَ وحلّ فى محافل العالم! كيف سمحنا بهذا؟! أرفعُ إصبعَ الاتهام فى وجه الثقافة التى لم توقّر مفكرينا ومثقفينا، واستبدلت بهم مَن يساهمون فى تفريغ العقل المصرى وتكريس هشاشته. ما أحوج «الجمهورية الجديدة» إلى إعادة بناء بيت العقل المصرى، لعلّنا ننجو!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نبوءةُ الرجل المثقف نبوءةُ الرجل المثقف



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon