بقلم : فاطمة ناعوت
كان بين الحين والحين، يُفاجئنا بزيارة مباغتة. نُحبُّها، نترقّبُها، نخافُ منها، ونفرحُ بها. يدخل علينا «السيكشن» فى كامل أناقته ورابطات العنق الفريدة ذات الألوان الصادحة، فيتنحّى المعيدون جانبًا ليسمحوا له بالتجوال فى قاعة رسم طلاب السنة النهائية بقسم العمارة/ كلية الهندسة/ جامعة عين شمس. يمرُّ بعينيه على عيوننا، نحن الطلاب الشغوفين بزيارته، القلقين منها، فيبتسم ابتسامته، التى نعرف أن وراءها سيمفونية وشيكة من أربع حركات: أنشودةُ القلق، أنشودةُ التوقّع، الكريشندو، ثم أنشودةُ الفرح والحسد والرجاء.
فى أنشودة القلق: تخفق قلوبُنا الصغيرةُ حين يمرُّ المايسترو جوار طاولاتنا خوفًا على مشاريعنا، التى سهرنا الليالى فى تصميمها بالقلم الرصاص، ثم حبّرناها بأقلام الرابيدو السوداء فى انتظار مرحلة التلوين. وفى أنشودة التوقع، كانت عيوننا تمرُّ على الطاولات حتى نخمّن أىَّ مشروع سوف يختارُ المايسترو ليعزف على ورقها معزوفتَه اللونية المُربِكة. ثم تأتى أنشودة الكريشندو حين يختارُ المايسترو مشروعًا لم يخطر ببالنا، نحن الطلاب، ثم يتوقف ويمسك باليتة الألوان وفرشاة الرسم. هنا يخفقُ قلب صاحب المشروع رعبًا. يُهرِقُ المايسترو الألوانَ على اللوحة فنكتم أنفاسنا وقد اختفت خطوطُ التصميم تحت موجات اللون السائل. يمسك المايسترو الفرشاةَ ويبدأ فى توزيع الألوان فى سرعة فنانٍ يعرفُ كيف يُخضِعُ اللونَ ويُطوّعه، وبعد دقائق نكون أمام قطعة فنية مبهرة. يبتسم المايسترو ويخرج من السيكشن، وقد عرفنا أن هذا المشروع سوف يحصد الدرجات الأعلى لأن رئيس القسم قد اختاره ليمنحَه ألوانَه. هنا تأتى الحركة الرابعة من السيمفونية: أنشودة الفرح بما نرى ونتعلم، والحسد لهذا الطالب المحظوظ، والرجاء فى أن يقع اختيار المايسترو لمشروعنا فى مقبل الأيام.
إنه المهندس المعمارى الكبير، أ. د. «فاروق حافظ الجوهرى»، أستاذ العمارة بهندسة عين شمس، الذى فقدته مصرُ قبل أيام. ولكنه خالدٌ عصىٌّ على الفناء، ليس فقط فى مئات البنايات الأنيقة التى شيّدها فى مصر والوطن العربى، وليس فقط فى نجله، المهندس المعمارى د. عمرو الجوهرى، زميل دفعتى وصديقى، وفى كريمته د. جيرمين الجوهرى، أستاذ التخطيط المعمارى، بل هو خالدٌ فى قلوب آلاف المعماريين الذين تتلمذوا على يديه، وأفخرُ أننى من بين أولئك المحظوظين.
حين كنّا فى الصف الثانى بكلية الهندسة، طلب منّا د. «فاروق الجوهرى» أن نتخيّل ونصمم «بوابة جهنم»! ثم جال بين طاولات الرسم ليمرّ بقلمه الأسود الغليظ ويشطب التصميمات التى خرجت متزنةً فنيًّا متناسقة معماريًّا! ثم راح يشرح لنا مفهوم «استاطيقا القبح» كإحدى تيمات الخطاب «ما بعد الحداثى» فى العمارة. تمامًا كما فعل «بودلير» شِعرًا حين مجّدَ الشيطان فى «أزهار الشر». وما فعله «ڤيكتور هيجو»، حين أجبرنا أن نرى كوازيمودو، فى «أحدب نوتردام» جميلًا وسيمًا، رغم ظهره الأحدب وجسده المشوّه وعينه العوراء وأذنه الصمّاء. تعلّمنا وقتها أن «القبحَ» قد يكون أداةً عبقريةً لاستدعاء «الجمال»، حين يكون الفنانُ فنانًا، وحين نتخلص من معلّباتنا الجاهزة عن فكرة الجمال والقبح. تعلّمنا من أساتذتنا بهندسة عين شمس أن نفتح مخروط الرؤية لنتأمل مفردات الطبيعة ونتعلّم أن الجمالَ كامنٌ فى كل شىء، ومهمّة الفنان التفتيشُ عنه واستخراجه من بين الركام. علّمنا المعمارى «فاروق الجوهرى» أن «العمارة فنُّ الأثرياء». وفلسفة ذلك المصطلح الصادم المقصود بها أن حضارةَ الدول تتجلّى أولًا فى عمارتها، لهذا يجب أن يُصرَف عليها من أجل صناعة الجمال. وكان المهندس الكبير «فاروق الجوهرى» بهذه الفلسفة فى خصام فكرى مع المهندس الكبير «حسن فتحى»، صاحب كتاب «عمارة الفقراء»، الذى يشرح فلسفة تعليم البسطاء أن يبنوا منازلهم بأيديهم بأبسط الإمكانيات. «انظر تحت قدميك وابْنِ»، أى استخدم الرمال والأحجار فى بناء حوائط بيتك دون خرسانات وأعمدة وكمرات. وكانت العقبة الأساسية لمثل تلك الأبنية هو «السقف»، الذى يتعرض لجهود الشد والانحناء، التى لا تقوى على تحملها إلا الخرسانة المسلحة مرتفعة التكاليف. لهذا تبنّى المعمارى حسن فتحى «فلسفة القُبّة والقبو»، التى تتحمل وزنها دون انحناء أو تصدّع.
ولكل فلسفة من الفلسفتين: «عمارة الفقراء» و«عمارة الأثرياء» وجاهتها. ومن العسير فى مقال قصير كهذا شرح وجاهة كلّ منهما. ولكن الشاهدَ أن ذلك الخلاف بين العظيمين: «حسن فتحى» و«فاروق الجوهرى» كان لصالح الجمال ولصالح الإنسان. ودائمًا ما كنتُ أنظرُ إلى تلك المعركة الفكرية بسعادة لأنها دليلٌ على الثراء الفكرى المصرى والتنوع الجميل، الذى أؤمن أنه أصلُ التطور البشرى. «دع ألف زهرة تتفتح»، فكلُّ زهرة فكرية وفنية لها جمالُها وحتميةُ وجودها، مادامت فى صالح الإنسان ولأجل فرحه وسعادته وراحته. رحم الله أستاذى العظيم «فاروق الجوهرى»، وعوّض مصرَ عنه خيرًا. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يُشيّد صروح الوطن».