بقلم : فاطمة ناعوت
لن يقرأ هذا المقال! علّه أولُ مقالٍ لى لا يزورُ عينيه منذ عشرين عامًا، رغم أن كلَّ حرفٍٍ فى هذا المقال النازف يخفقُ بحبّه، وكلَّ خفقةٍ تشدو وجعًا لرحيله. ها هو هذا العامُ الحزين ٢٠٢٠ يأبى أن يحملَ عصاه ويمضى إلى حال سبيله؛ دون أن يفجعنا بفقد ما لا يُعوَّض، وقبل أن يختطف رموزًا مصرية مشرقة عزَّ أن تتكرر. شمعةٌ وطنية نادرة انطفأتْ ورحل رجلٌ عظيمٌ كان يحمل مصرَ فى قلبه ولا ينطقُ إلا عشقًا لها. كان لى بمثابة الأب الروحى الذى يُنير دربى بمشعل الوطن. كان يقرأ جميعَ مقالاتى بجريدة «المصرى اليوم» ويهاتفنى من أسيوط، مهما كانت حالتُه الصحية، وبصوتِه الواهن يشدُّ على قلبى، ويقوينى إن انكسرتُ؛ فأتعلمُ منه المحبة والوطنية والثراء الفكرى والروحى. فقدتُ هذا السندَ الطيب وتمضى الحياةُ بى وقد خسرتُ ذلك الصوتَ المثقفَ الذى كان أعظم عطايا الله التى نعمتُ بها سنواتٍ طوالاً قبل أن ألتقى به لأول مرة فى ربيع العام الماضى فى مدينة أسيوط. المفكر الوطنى الكبير، القسّ «باقى صدقة»، راعى الكنيسة الإنجيلية بأسيوط وأحد كبار الرموز الوطنية والفكرية المصرية.
دعانى لزيارة مدينة أسيوط، قلب مصر، التى أطلق عليها الجدُّ المصريُّ اسم: «سَوْت»، وتعنى بالمصرية القديمة: «الحارس»؛ لأنها حارسةُ حدود مصر العليا وصعيد مصر. ولأنها كانت الصخرةَ المنيعة التى ساندت مدينة «طِيِبة» فى نضالها الباسل ضد الهكسوس الغُزاة، الذين دحرتهم مصرُ وطردتهم من أرضنا المباركة، لتتكوّن أقدمُ إمبراطورية عرفها العالمُ، ثم تحوّل اسمُها فى اللغة القبطية إلى «أسيوط»، كما نعرفُها اليوم. قلبُ مصرَ النابضُ بالثقافة والحياة والأثر الطيب، وتضمُّ بين ثناياها عشرات المناطق السياحية الفرعونية والقبطية والإسلامية، أهمُّها «الدير المحرّق»، الذى سكنته السيدةُ العذراء مريمُ البتول المطهّرة مع طفلها السيد المسيح عليهما السلام، شهورًا طوالًا، ومنها دير السيدة العذراء فى درنكة، ومسجد «الفرغل» فى أبو تيج، والمسجد الأموى وغيرها، عدا الآثار الفرعونية الخالدة.
وكان لقائى الثرى بذلك الأستاذ الجليل، الذى خرجت من تحت يديه أجيالٌ من الوطنين الشرفاء الذين علَّمهم قيمة «مصر» الوطن، وقيمة «الإنسان» الذى يُحبُّ الوطنَ، ويفتديه بكل غال. بدأت علاقتى بهذا الرجل الجليل منذ سنوات. يهاتفنى مرةً فى الأسبوع أو مرتين، ليُعلِّقَ، بصوته العميق على مقالاتى، ويشدُّ على كفىّ مؤازرًا فى المحن التى أتعرّضُ لها بين الحين والحين من الدوجمائيين الإقصائيين أعداء الحياة. فى عهد الإخوان التعس، كان يطمئننى ويهدئ من وجلى قائلا: (مصرُنا ستعودُ لنا. فلا تخافى. فهى محميةٌ بأمر الله فى الإنجيل والقرآن). وبعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ حين طردنا الإخوانَ، تغيرت عبارتُه إلى: (مصرُنا عادت إلى مصرِنا).
كان رجلًا فريدًا؛ إنْ طابَ لك الحظُّ والتقيتَه، ستعرفُ أنك فى حضرة إنسان عزَّ نظيرُه، نسجٌ وحده. إن تكلّمَ، تمنيتَ أن يتوقّف الزمانُ لكيلا يُنهى حديثَه. وإن صمتَ ليُفكّرَ؛ تمنيتَ أن تركضَ الدقائقُ سريعًا حتى يعاودَ الحديثَ. أحببتُه سنواتٍ طوالا قبل أن أراه. كانت المحادثاتُ التليفونية بيننا هى جسر الوصال الوحيد، إضافةً إلى محاضراته التى أشاهدها على الانترنت وكلماته فى الصحف وكتبه وترجماته القيمة. ولهذا كنتُ فى حال من الشغف لرؤياه رأى العين ومصافحته يدًا بيد بعد سنين من الانتظار لهذا اللقاء الثريّ. فى الطائرة من القاهرة إلى أسيوط، كنتُ أعدُّ الدقائق حتى أصل إليه. وبعد مراسم الاستقبال الدافئة فى مطار أسيوط بالحبِّ والزهور، كنتُ أسابقُ الجميعَ فى الطريق إلى قاعة المناسبات فى الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط، حتى ألتقى بتلك القامة الفكرية والوطنية الشاهقة: «المفكر باقى صدقة»، الذى أهدى المكتبة العربية قرابة الثلاثين كتابًا من عصارة فكرة ووطنيته وترجماته للفكر العالمى. وأخيرًا التقت عيناى بعينى ذلك الرجل الذى يقُطرُ رقيًّا وتحضّرًا وعشقًا لمصر ومحبةً لله ولجميع خلق الله.
من عطايا الله الطيبة لى كذلك، أن كلّف الأستاذُ «باقى صدقة» الأصدقاءَ فى أسيوط بتنظيم عدة زيارات جميلة لى كان من بينها زيارة «دار لليان تراشر للأيتام»، وزيارة «الدير المحرّق» بالقوصية، وزيارة مدرسة «السلام الحديثة» فى أسيوط بمتاحفها: «الفرعونى والبيولوجى والكيميائى». وكلٌّ من تلك الزيارات الثمينة كانت درسًا عميقًا لى لأتعلمَ أشياءَ لا يُحصّلُها المرءُ فى آلاف الكتب وعشرات السنين.
رحمك الله يا أبى العزيز وألهمنا الصبر على فراقك الصعب. وطوبى لمصر برموزها الثرية مشاعل الوطن، وطوبى للمصرين بمصرنا العظيمة، وطوبى لكل من يحبُّ الوطن. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يعيشُ فى قلبه الوطن