توقيت القاهرة المحلي 08:56:37 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رفيقى النبيل.. قُم وخذ هذه الزهرة

  مصر اليوم -

رفيقى النبيل قُم وخذ هذه الزهرة

بقلم: فاطمة ناعوت

راقدًا على سرير الوهن، اختلسَ ابتسامةً من رُكام الوجع وقال لى: «لا تبكى يا حبيبتى.. سأنهضُ من رقادى بإذن الله ونستكملُ معًا رحلةَ الحياة. ستمرُّ هذه الأزمةُ بسلام مثلما مرَّت بنا من قبل عشراتُ المحن والنوازل. ابتسمى وانشرى الفرحَ والأملَ من حولك؛ كما تعوّد الناسُ منك، فأنتِ صانعةُ الأمل». اقتطفتُ من باقات الزهور حول سريره زهرةً، وقدمتُها له.. لكن يدَه لم تمتد لتأخذها! يمناه المكسورةُ راقدةٌ فى ضمادات الجبائر، ويُسراه حرّةٌ دون جبيرة؛ لكنها كذلك لا تقوى على الحركة، كما قدميه وساقيه وجِذعه وسائر جسده الراقد دون حراك على سرير المستشفى. حادثٌ صعبٌ ألمَّ به وهو خارجٌ من عمله، أفقده القدرةَ على الحركة بسبب صدمة فى النخاع الشوكى. هذا رفيقُ حياتى: صديقًا ومُعلّمًا وشقيقًا وزوجًا وأبًا لأولادى، ونبيلًا بين الرجال: المهندس المعمارى «نبيل عبداللطيف شحاتة». وهذه يُمناه الساكنةُ التى لم تقوَ على التقاط الزهرة من يدى، هى ذاتُ اليدِ التى رسمت أجملَ التصميمات التى أشرقت مبانى جميلة فى مصرَ وخارجها. وهى اليدُ التى خطّتْ على لوحاتنا الكانسون والفبريانو تُصحّح لنا خطوطَنا المتعثرةَ لتعلّمنا أصولَ علم وفنَّ العمارة وهو معيدٌ فى كلية الهندسة جامعة عين شمس. وهى اليدُ التى وضعت فى إصبعى خاتمَ الزفاف. وهى اليدُ التى حملت طفلَنا الأول «مازن»، ثم طفلنا الثانى «عمر». وهى اليدُ التى سندتنى لئلا أسقطَ حين حاكَ لى الإخوانُ المكائدَ عام ٢٠١٤ واتهمونى فى قضية فكر، وحكموا علىَّ بثلاث سنوات سجنًا عقابًا لى؛ لأننى أحببتُ وطنى ورفضتُ وجودَهم على سُدّة حكمِه. هذه اليدُ الساكنةُ هى ذاتُ اليد التى احتوتنى وغمرتنى على باب المحكمة وجففت دموعى، وحين سافرتُ اختارت صورة الملكة «حتشبسوت» وكتبت تحتها عنى: (أنفُها يشبه أنفَكِ، وكبرياؤها يشبهُك. نهرُها الخالدُ تسرى فى مياهه نفحاتُ رسالتكِ الراقية. تُشبهينها فى ملامحِكِ الفرعونية، ورائحة الأرض المقدسة. فَجرُها يشبه ابتسامةَ الرضا فى عينيك. أسمعُ صوتَكِ فى فضاءات المطارات، فيتدفقُ الحلمُ فى عيون الصغار. كيف تركتِ الوطنَ وأنت مَن ترسمين البهجةَ على وجوه الموجوعين؟! وتلك الطفلةُ التى تمنيناها ولم تأتِ أبدًا، «أندى».. أتذكرين كيف ملأتِ البيتَ فرحًا رغم غيابها؟ أتذكرين كتاب «حكايا من الأوبرا» الذى أهديتِه لى فى الجامعة؟ هذا مدرج كلية الهندسة. وهذا سهمُ الشمال نُطاردُه لكى نوجّه البنايات، لا نحو بُوصلة الشمس والنسيم، بل صوب بوصلة جديدة تعيدُ توزيع الفرح بين البشر بالقِسط. عودى إلينا واملئى الكونَ حبًّا ورقصًا بكلماتك التى توجّه العاشقين نحو دائرة الحبّ الأوسع لجميع البشر، فتتوقفُ الحروبُ ويعودُ الأملُ للوجوه الخائفة. عودى وانشرى دستورَك بين الناس، دستور: العدل والمحبة. هذان هما جناحا طائرِكِ الأزرق الذى يُحلّقُ حولَ شُرفتى كلَّ شروق، حتى تعودى. عودى!).. هكذا كتبتْ يدُه التى لا تقوى أصابعُها الآن على القبضِ على قلم، ولا على زهرة!.

أثناء سفرى بعيدًا عن وطنى وأسرتى وأطفالى ثمانية أشهر طويلة كما الدهر، كان رفيقى الراقدُ على سرير الوهن يضعُ القمحَ والماء للعصافير واليمامات فى شرفتى ويسقى الزهورَ، ويلتقطُ صورةً لكل زهرةٍ جديدة تبزغُ من بُرعمها ويرسلُها لى لكى أوقنَ أننى سوف أعودُ إلى وطنى مرفوعةَ الرأس، وقد وعدنى بأن يضفر من تلك الزهور إكليلًا يُزيّن هامتى. «زبانيةُ الإخوان لا ينتصرون إلا على الضِّعاف. ونحن شعبٌ قوىّ عصىّ على الانهزام. وأنتِ ابنةُ هذا الشعبِ الأبيّ، فكيف لا ينصرُكِ اللهُ وأنتِ تنادين بالعدل والسلام والحب، وهى من أسمائه الحُسنى؟!».. هكذا كان يخبرنى كل يوم وأنا فى غربتى حتى أتقوّى وأصمدَ وأتحمّلَ فراقَ الوطن والضَّنا.

بالأمس، كان يُنصتُ إلى كلام الأطباء؛ يشرحون له طبيعة العملية الجراحية الدقيقة التى سوف يُجرونها له فى عموده الفقرى، وينتظرون منه الموافقة عليها، فنظر إلى عينىّ وعيون أطفالنا الواجمة الخائفة، ثم همس فى وهنٍ وإيمانٍ: «هذا الحبُّ فى تلك العيون سوف يساعدنى على الشفاء، وسوف أنهضُ من الفراش وأتحرك من جديد بإذن الله». اللهم استجبْ.

اللهم أعدْ إلينا هذا الرجلَ النبيلَ الذى أهدانى أجملَ منحة فى الوجود، فجعلنى أُمًّا لهذين الشابين الجميلين «مازن وعمر»، ولم يكن فقط أبًا رائعًا لهما ولابنتنا الروحية الجميلة «فاطيما»، بل كان أبًا لى وشقيقًا ورفيق كفاح طويل تجاوز الثلاثين عامًا. كان وسيظل لى الصديقَ الذى لا أخجل أن أرمى بين يديه دموعى وضعفى حين تقسو الحياة. كان وسيظلُّ الصخرةَ الَتى نتكئ عليها حين تهدُّ الحياةُ قوانا.

رفيقَ دربى.. قُم ومُدّ يدَك والتقط من يدى هذه الزهرة، وضعها فى كأس الماء حتى تُشرقَ من جديد. اللهم اشفه وعافه واشفِ كلَّ مريض فى هذا العالم

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رفيقى النبيل قُم وخذ هذه الزهرة رفيقى النبيل قُم وخذ هذه الزهرة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين
  مصر اليوم - مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 08:48 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها
  مصر اليوم - دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء
  مصر اليوم - نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:21 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلاق إعلان الرياض لذكاء اصطناعي مؤثر لخير البشرية
  مصر اليوم - إطلاق إعلان الرياض لذكاء اصطناعي مؤثر لخير البشرية

GMT 23:09 2019 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

بورصة دبي تغلق دون تغيير يذكر عند مستوى 2640 نقطة

GMT 21:08 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

باريس سان جيرمان يستهدف صفقة من يوفنتوس

GMT 14:28 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير المصري تدعم إستمرار ميمي عبد الرازق كمدير فني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon