توقيت القاهرة المحلي 14:39:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نجيب محفوظ.. العصىُّ على الغياب

  مصر اليوم -

نجيب محفوظ العصىُّ على الغياب

بقلم: فاطمة ناعوت

فى أحد لقاءاتنا بالخالد «نجيب محفوظ» عام ٢٠٠٣، وفى ڤيلا الدكتور «يحيى الرخاوى» بحى المقطم، مِلتُ نحوه وهمستُ بسؤال: «أستاذ نجيب، هل تذكر اسم طاعنك؟»، فابتسم بوهنٍ وحرك رأسَه دلالة النفى، ثم همس لى: «لكننى سامحته!».. هكذا العمالقةُ أمام الصغار. الكبارُ يغفرون للصغار طيشَهم وحماقاتِهم؛ لأنهم يدركون أن الصغارَ لا يعلمون ماذا يفعلون.ونحن كذلك لا نذكر اسم المجرمَيْن اللذين طعنا عنق «نجيب محفوظ»، لكننا نعرفُ «نجيب محفوظ» العصىُّ على النسيان. ولا نعرف اسم قاتل شاعر العرب أبى الطيب المتنبى، لكننا نعرفُ «المتنبى»، لأن قصائده تملأ الدنيا ولا يخبو جمالُها مع القرون. ولا نعرفُ اسم الأُمى الذى اغتال «فرج فودة»، لكننا نعرفُ جيدًا «د. فرج فودة»، لأن مشعله لا يزال وهاجًا وسيظل. نحن لا نعرفُ اسمَ قاتل عالمة الذرّة المصرية النابغة «سميرة موسى» فى أحد وديان أمريكا الموحشة، لكننا نعرف من هى «سميرة موسى» وما كانت ستؤديه لمصر لو لم تغتلها يدُ الموساد الآثمة وهى فى وهج جمالها. نحن لا نعرفُ اسم الكاهن الذى كفّر جاليليو وحكم عليه بالموت، لكننا نعرف «جاليليو جاليلى» وكشوفاته المدهشة فى علوم الفلك والفيزياء. نحن لا نذكر اسم شانق «عمر المختار»، المناضل الليبى النبيل، لكننا نعرف «عمر المختار» ونذكر مقولته: «سيكون عمرى أطول من عمر شانقى». هل يعرف أحدكم اسم صالب «الحلاج»، أو قاتل «السهروردى»، أو من سحل «هيباثيا» من جدائلها، والذين كفّروا «ابن عربى» و«ابن الفارض» و«ابن رشد» و«ابن المقفع» و«لسان الدين الخطيب» و«نصر حامد أبوزيد» و«طه حسين».. وغيرهم المئات من نوابغ العالم وعظماء التاريخ؟!.. لا، إنما نعرف تلك الرموز التى لا يخبو ضوؤها، وأما قاتلوهم الخاملون، فمحلّهم خانة النسيان المعتمة.. ويؤكد لنا التاريخُ أن أولئك العظماء النبلاء الذين اغتالتهم يدُ الجهل والتكفير والحسد، أعمارهم أطولُ من أعمار قاتليهم.

لا أحد يذكر اسم طاعن نجيب محفوظ ولا من كفّروه وأهانوا تراثه، لكننا نعرف قيمة «نجيب محفوظ»، ونحفظ رواياته ونرى شخوصها تعيش بيننا، ونعرف أن أمس الأول: ٣٠ أغسطس، يوافق الذكرى السادسة عشرة ليوم مغادرته هذا العالم العنصرى ضيّق الأفق إلى حيث عالم آخر شاسع رحب لا يضيق بالإبداع والخيال والعلم والحبّ والفكر المختلف، بل يقدّر الفن الرفيع ويحترم «العقلَ»، هدية الله الأولى للإنسان.

للتاريخ مصفاةٌ قاسيةٌ عمياء لا تجامل. تُسقط الحَصى البليد، وتُبقى الدُّرَّ الثمين. يذكرُ التاريخُ فرائدَ العظماء، ويمحو من كتابه النكراتِ المهاويس الذين قتلوهم أو طعنوهم أو كفّروهم أو اغتالوهم معنويًّا وأدبيًّا أو أقاموا ضدهم دعاوى قضائية. لهذا نبتسمُ فى إشفاق حين يلاحقنا البلداءُ بالقضايا ويقضون أعمارهم فى قاعات المحاكم فى محاولات دؤوب لجرّنا إلى السجون. لأننا نعرف أننا موجودون حتى وإن قضينا نَحبنا فى عتمات السجون، بينما هم منسيون وإن عاشوا ألف عام.

فى أحد لقاءاتنا الأخيرة معه فى فندق شبرد، انتبهتُ إلى أننى- على كثرة ما أقتنى من روايات «نجيب محفوظ»- لم أحظَ بعدُ بتوقيع منه على أىٍّ منها؟!.. نهضتُ من مقعدى وركضتُ إلى فندق سميراميس المواجه، وارتقيتُ الدَّرجَ إلى حيث المكتبة التى تضمُّ أعمال الكاتب الكبير. امتدت أصابعى رأسًا إلى «الطريق»، الرواية الأقرب إلى قلبى، حيث «البحث عن هوية»، «البحث عن حُلم». وعدتُ إلى صالون الأستاذ ركضًا، وكان الأستاذُ ينتظرُ بقلمه كى يوقّع باسمه على الرواية وعلى («الطريق»: نجيب محفوظ،...).

بعد حادثة الخنجر، أصبح يكتبُ ببطء شديد وبحروفٍ كبيرة. بعدما كتب اسمَه فى دقائقَ طوالٍ كأنها الدهرُ؛ حاولتُ سحبَ الرواية من بين يديه وأنا أشعر بالخجل لما سببته له من جهد وتعب. تمسّكَ الأستاذُ بالكتاب ليكتبَ التاريخ، ثم نظر فى عينى قائلا: «إوعى توقّعى اسمك دون تاريخ!»، وكان درسًا لم أخلفه أبدًا، كلما وقّعت أحد كتبى لقارئ. واستغرقتْه كتابةُ التاريخ خمسَ دقائق أخرى مضافةً إلى الخمس الأولى التى كتب فيها اسمه بخط مرتعش. وصار ذلك التوقيعُ أثمنَ ما فى مكتبتى. دسستُ كتابى/ الكنز فى حقيبتى ثم أخذنى الصمتُ الطويل.. أستمعُ إليه، وأستمتعُ بخفة ظلّه وقفشاته السياسية وإلماحاته الذكية التى تشير إلى نصاعة وعى لم ينل منه تراكمُ العقود وغزارة العمل والطعنةُ الحمقاء.

اليوم، أتمّ الأديب نجيب محفوظ عامه السادس عشر بعيدًا عن صخب العالم، بعدما انحنى له العالمُ احترامًا حين حصد لمصر وللعرب «نوبل الآداب» عام ١٩٨٨. لم ننسه، ونسينا الذين على عقولهم أقفالها ممن أفتوا بقتله.

«نجيب محفوظ».. كل سنة وأنت أكثر وجودًا وحياةً ممن أخفقوا فى قراءتك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نجيب محفوظ العصىُّ على الغياب نجيب محفوظ العصىُّ على الغياب



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث

GMT 04:47 2021 السبت ,02 تشرين الأول / أكتوبر

الفنان محمد فؤاد يطرح فيديو كليب «سلام»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon