توقيت القاهرة المحلي 19:57:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لا يرون.. لكن اللهَ يرى!

  مصر اليوم -

لا يرون لكن اللهَ يرى

بقلم : فاطمة ناعوت

دخلت السيدةُ إلى الغرفة وقالت للجالسين شيئًا. لكن أحدًا من أفراد الأسرة لم ينتبه لوجودها ولا سمع أحدٌ ما قالت. كررت قولها بصوت أعلى: (أخفضوا صوتَ التليفزيون، لو سمحتم!). ولم يتحرك أحدٌ. وفى أحد المساءات كانت وزوجها مدعويْن إلى حفل. وبعد ثلاث ساعات حان وقت العودة للبيت. بحثت عن زوجها الذى تركها ليتحدث مع أصدقائه. وقفت أمامه وأشارت له مرّةً ومرّات. لكنه لم ينتبه، وظل يتحدث إلى رفاقه! هنا أدركت أن زوجها لا يراها وهى أمامه! (أنا غير مرئية!)، هكذا قالت لنفسها بحزنٍ. وتأكد لها الأمرُ حينما أوصلت طفلها إلى مدرسته فى الصباح، وسألته المعلّمةُ: (مَن السيدة التى أتت بكَ يا جاك؟) فأجاب الطفلُ بتلقائية: (لا أحد!). «يا إلهى! لقد أصبحتُ لا أحد؟!». هكذا بدأت «نيكول جونسون» تُدرك أنها لم تعد مرئية. صارت من المُسلّمات البديهية فى عيون أفراد أسرتها. ومن فرط حضورها لم يعد أحدٌ يراها! كانت تؤدى مهامها اليومية كأمٍّ وزوجة، لكنّ أحدًا لا يشعر بوجودها! بدأ الحزنُ يسكنُها وأوشكت على السقوط فى الاكتئاب.

فى أحد الأيام أهدتها صديقتُها كتابًا مُصوّرًا عن أجمل كنائس أوروبا. فى صدر الكتاب إهداءٌ يقول: (بكل الإعجاب أُهدى كتابى إلى الفخامة والأناقة التى شيّدتموها، حين لم يركم أحد. للأسف لن نعرف أبدًا أسماء البشر الذين شيّدوا تلك الكاتدرائيات الرائعة!). راحت تُقلِّب الصفحات تلوَ الصفحات، تتأمل صور الكنائس العملاقة الملوّنة، ثم تنزل بعينيها إلى أسفل الصفحات لتعرف أسماء المعماريين والبُناة، فتجد مكتوبًا أسفل كل صورة: (المعمارىُّ والبَنّاؤون: غير معروف). ثمّة بشرٌ يُتممون أعمالهم الخالدة، وهم مدركون أن أحدًا لن ينتبه إليهم.

حكى الكتابُ عن نحّاتٍ ظلَّ ينحتُ فى رأس عمود حجرى شكل طائر ضئيل. هذا الزخرف سوف يختفى بعدما يُشيّدُ سقفُ الكنيسة. صعد إليه رجلٌ وسأل النحّاتَ ساخرًا: (لماذا تُنفق كلَّ هذا الوقت فى نحت تمثالٍ لن يراه أحد؟!) أجاب النحّاتُ: (لأن اللهَ يرى). أولئك يؤمنون أن الله يرى كلَّ شىء. أولئك الكادحون ظلّوا يذهبون يومًا بعد يوم على مدى الأعوام ليشيدوا بناءً لن يشهدوا اكتماله فى حياتهم، فبعض الكاتدرائيات استغرق بناؤها أكثر من مائة عام. أكثر من عُمر أولئك المعماريين والنحّاتين والبنّائين. قدّموا أعمارهم دون أى ضمانات مستقبلية. يشيّدون بناية لن يروها ولن تحمل أسماءهم. وتساءل الكتابُ: (ربما لن نرى بنايات بتلك الروعة والفخامة بعد ذلك، لأن بشرًا قليلين الآن مستعدون لتقديم تضحيات بهذا المستوى).

أغلقت السيدةُ الكتابَ الضخم وكأنها سمعت نجوى الله: (أنا أراكِ. أنتِ لستِ «غير مرئية» بالنسبة لى. ليست هناك تضحيةٌ لا أراها مهما صغُرت. أرى كلَّ رغيفٍ يُخبَز، كلَّ خرزة تُخاط، وأبتسمُ مع كل غرزة تُحاك. أرى كلَّ دمعة إحباط تذرفينها حين لا تسير الأمورُ كما تشتهين. ولكن تذكّرى دائمًا أنكِ تشيّدين بنايةً عُظمى، لن تكتملَ فى حياتك، وربما لن يكون بوسعك أن تعيشى فيها. ولكنْ إن أتْمَمْتِ عملَك على النحو الأكمل، سوف تكون مشيئتى).

من المؤلم ألّا يرانا الناسُ. لكن تجاهلَنا ليس مرضًا يمحو حياتنا ويُهدر جهدنا. بل ربما هو العلاجُ من مرض «التمركز حول الذات»، والترياقُ الذى يشفى غرورنا. لا بأس إن كانوا لا يرون. لا بأس إن كانوا لا يعرفون.

فى كتابها (المرأةُ غير المرئية- The Invisible Woman) تقولُ «نيكول»: (لا أريدُ أن يقول ابنى لأصدقائه فى الجامعة: «لن تصدقوا ماذا تفعل أمى من أجلى! إنها تصحو فى الرابعة فجرًا لتخبز الفطائر وتخفق الزبد وتكوى الملابس»، بل أريده أن يُحبّ العودة إلى المنزل، ويقول لأصدقائه: «سوف تحبّون بيتى». لا بأس أنهم لا يرون، فالله يرى. دعونا ندعو الله أن تقف أعمالُنا كآثار فخمة فى أوطاننا).

عام ٢٠١٦ سألتنى الإعلامية السعودية الجميلة: «نادين البدير» على الهواء: (تكتبين منذ ستة عشر عامًا عن العدالة والمواطنة والجمال والتحضّر، ألم يُصِبْكِ الضجرُ وأنت ترين أن أحلامك لا تتحقق، بل تقفين على أبواب السجن؟! لماذا تقبلين أن تكونى الضحيةَ وتتعرضى للملاحقة القضائية والسجن والسُّباب والتكفير والإقصاء؟ هل يستحقُ الأمرُ كلَّ هذا؟!) وأجبتُها على الهواء بعفوية: (مصرُ تستحقُّ! جميعُنا مدين لمصر! ربما لن نشهدَ فى حياتنا ما نرجوه لمصرَ من تنوير وتحضُّر، لكننا نبنى حجرًا فى جدارٍ، سوف يُكمله مَن يأتى بعدنا).

«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يبنى حجرًا فى صرح الوطن».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا يرون لكن اللهَ يرى لا يرون لكن اللهَ يرى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 08:21 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon