بقلم : فاطمة ناعوت
هذا هو المسرحُ في أوجِ اكتماله، كما يهلُّ البدرُ على صفحاتِ عيوننا في أوجِ تمامه. المسرحُ حينما تكتملُ جميعُ أركانه ليقدّم لنا معزوفةً مسرحيةً متناغمة، لا يشوبُها نقصان. الإخراج والحبكة الدرامية والديكور والملابس والإضاءة والرقصات الاستعراضية والغناء، وقبل هذا وبعده، الأداءُ المدهش والمتناغم لجميع الفنانين، لتكتمل السيمفونية المسرحية كما يليق بها أن تكون على مسرح مصرىّ عريق مثل: «البالون»، الذي شهدنا على خشبته أجمل كلاسيكيات المسرح.
مسرحية «سيد درويش»، التي أنتجها البيت الفنى للفنون الشعبية والاستعراضية بوزارة الثقافة، روتْ تعطُّشَنا للمسرح الثرىّ «مكتمل الأركان»، الذي افتقدناه كثيرًا في الفترات الماضية. ورغم أن المسرحية عن تاريخ عَلَمٍ مصرى وعالمى شهير: الموسيقار «سيد درويش»، ما يشى بأن لا جديدَ سوف نراه، إلا أن الأمرَ جدٌّ مختلف، فطزاجةُ النصُّ تمثّل 50% من نجاح أية مسرحية. وحين يتصدّى مبدعون لعرض مسرحى عن قصة تكاد تكون محفوظة للجميع عن تاريخ أحد الأعلام، فهذا لون من «المغامرة» بالتضحية بنصف فرص النجاح. وهنا، يجب تقديم التحية للمؤلف المبدع «السيد إبراهيم»، الذي التقطَ من حياة «الشيخ سيد درويش البحر» (القصيرة والثرية في آن)، مناطقَ مشرقةً غارقةً في الدراما والشجن والوطنية والمشاعر والمِحَن الإنسانية والانكسارات والنجاحات، مُضفّرةً بخمسة وعشرين لحنًا وأغنيةً للعظيم «سيد درويش» مع الأصوات النسائية الشجِيّة، ما جعلنا، نحن المشاهدين، في ملء الشغف والمتعة والترقّب ساعاتٍ ثلاثًا، كنّا نرجو أن تكون ثلاثين. وأبدع المخرج الجميل «أشرف عزب» في تحويل هذا الورق الجميل إلى مسرح راقٍ حىّ ينبضُ بالفن والسموّ.
«محمد عادل»، أو «ميدو» كما نطلقُ عليه، ابن المعهد العالى للفنون المسرحية، بوسامته المصرية ورشاقته وخفّة ظلّه وموهبته الطافرة، أبهرنا بأدائه العظيم لشخصية «سيد درويش» المركّبة. تشرّبَ الشخصيةَ وعايشها على نحو مدهش، حتى ذابَ فيها إلى حدِّ أن فجعَنا موتُه مُنكفئًا على عودِه يعزف أغنيةَ الترحاب بعودة الزعيم «سعد زغلول» من المنفى. صدمنا موتُه الهادئ، وكأنما لم نكن نعرفُ مسبقًا أن «سيد درويش» قد خطفه الموتُ في شرخ شبابه! ما حدث هو حالٌ من «الحلول»، بالتعبير الفلسفى. الفنان «محمد عادل» حَلَّ في شخص «سيد درويش» بعمقٍ، فحلَلْنا نحن معه بعمقٍ في زمنِه ولحظته، بعدما محونا من ذاكرتنا ما نعرفه مسبقًا عن تاريخه، وعشنا اللحظةَ بكامل تفاصيلها، ففُجِعنا بموتِه كأنه يموتُ الآن! إنها براعةُ الأداء من نجم موهوب، جعلت مشهدًا مدوّنًا في ذاكرة التاريخ يباغتُنا مثل نصل سكين حادٍّ ينحرُ الروح. فاجأنا «ميدو» بإتقانه رقصة «البوب» على موسيقى «سيد درويش»، وفاجأنا بالغناء كذلك، لنجد أنفسنا أمام فنان شامل لم يكن غيرُه ليؤدى هذا العمل العصىّ.
أما النجمة الآسرة «لقاء سويدان» فكانت كرزة المسرحية بطغيان جمالها وإبداعها الاستعراضى المدهش، وكذلك غنائها، وهى خريجة «كونسيرڤتوار»، في دويتوهات مشتركة مع «ميدو»، والفنانة «رشا سامى». قدّم الفنان «سيد جبر» شخصية المصرى الفهلوى، الذي تُمثّل خفةُ ظلّه ركنًا أساسيًّا من مهنته كقهوجى أريب. ثم تقفُ أرواحُنا احترامًا حينما تجمعُ خشبةُ المسرح ثلّةً من عظماءَ مصريين في الموسيقى والكتابة، يُكافئ كلٌّ منهم مجرّةً بأسرها: نجيب الريحانى (علاء الدين الحريرى)، بديع خيرى (محمد الشربينى)، محمد يونس القاضى (ياسر الرفاعى)، وظلال «بيرم التونسى»، إلى جوار فنان الشعب الخالد «سيد درويش». ما هذا الزمنُ الثرىّ! وما هذا الوطنُ العظيم الذي أنجب أولئك الأفذاذ!
من الجميل في هذا العرض الثرىّ تسريبُ المعرفة الموسيقية إلى أعماقنا دون مباشرة، فيحكى أحدُهم كيف أدخل رائدُ الموسيقى «سيد درويش» تيمة «البوليفونى»، التي تعتمد عدةَ أصوات لحنية بينها فروقٌ زمنية طفيفة، بعدما كان الطربُ المصرى يعتمد على «المونوفونى»، أو اللحن الأحادى المعروف.
«الديكور» كان بطلًا بحقّه الخاص. تحية احترام للمبدع «محمد عبدالرازق»، الذي قدّم لنا حى «كوم الدكّة» السكندرى، ومسرح حلب السورى، وكامل تفاصيل المشاهد المبنية، مع توسُّل السينوغرافيا على نحو فائق الجمال، ما ساعدنا في إتمام عملية «الحلول» في الزمان والمكان والشخوص. كذلك تصميم الرقصات والاستعراضات مبهرةٌ ومتقنةٌ وخارجة عن المألوف، تحية احترام للمبدع «وفيق كمال»، مصمم ومدرب الاستعراض.
ولأنه عملٌ متكاملٌ لا نقصَ فيه، فالقلمُ يقدّمُ التحية لكل من ساهم في إخراجه للنور على هذا النحو الثرى، اسمًا اسمًا. تحية احترام للفنان المقاتل «د. عادل عبده»، الذي تصدّى لخروج المسرحية للنور، رغم محاولات إيقافها سنوات. وتحية للمخرج المثقف «خالد جلال»، الذي دعم العمل قائلًا: إن علينا الحفاظ عليه لأنه وُلِد ليعيش طويلًا. تابعوا المسرحية في الموسم الشتوى أكتوبر المقبل بإذن الله. «الدينُ لله، والوطنُ لمبدعى الوطن».