بقلم : فاطمة ناعوت
لماذا لا ينتصرُ الخيرُ على الشرّ دائمًا، كما فى الروايات الرومانسية والحكايا الفولكلورية؟ فكثيرًا ما يصدمُنا الواقعُ بانتصار الشرّ، فنهمسُ فى حسرة: «المؤمن مُصاب». ولا ندرى هل نصدّق الروايات ذوات النهايات السعيدة، التى تؤكد المنطق بانتصار الخير والفضيلة، أم نخضع للواقع المرير الذى طالما ينحسرُ فيه الجمال، وينتعشُ القبح؟! الجدُّ المصرىّ الصالح يحلّ لنا هذا اللغز.
تقول الأدبيات المصرية إن «تحوت»، ربَّ الحكمة عند المصريين، هو المسؤول عن إدارة الصراع بين الخير والشرّ فى العالم. وظيفتُه مساعدة طرفى الصراع فى حياد ليستمر الصراعُ دون غالب ولا مغلوب، فيعالجُ المهزومَ منهما، لينهضَ ويستأنفَ معركته الأبدية، فلا ينتهى من الأرض ذلك الصراع السرمدىّ. وهذا يفسِّرُ سرَّ التوازن المدهش بين الحق والباطل فى الدنيا، ويؤكدُ لنا، بكل أسف، أن الشرّ لن ينتهى من العالم إلى أن يستردّ اللهُ الأرضَ المحزونةَ بمَن يسكنها.
أكتبُ عن ذلك العالِم المصرى «تحوت» لأن غدًا 11 سبتمبر هو غُرّة الشهر المُسمّى باسمه (توت) فى التقويم المصرى القديم، الذى بدأ قبل اثنين وستين قرنًا من الزمان. وهو عيدٌ وطنىٌّ عظيم يخصُّ المصريين جميعًا (وليس عيدًا مسيحيًّا كما يظنُّ غيرُ العارفين)، فهذا التقويم العريق موجودٌ قبل نزول المسيحية نفسها بأكثر من 4000 سنة. وأرجو أن تحتفل به مصرُ رسميًّا فى مقبل السنوات.
غدًا بداية عام 6262 على الروزنامة المصرية، التى يحفظُ شهورَها كلُّ مزارع مصرى، إذ يحسبُ مواعيدَ غرس البذور وحصاد المحاصيل وفق شهورها الثلاثة عشر: (توت، بابة، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرا، النسى). هو عيد «النيروز». مُشتقٌّ من الكلمة المصرية القديمة: نى- يارؤو، وتعنى: (الأنهار). لأن شهر (توت/ تحوت)، الذى يبدأ غدًا، يتوافق مع موعد اكتمال فيضان النيل (حابى)، أصل الحضارة والحياة عند سلفنا المصرى الصالح.
وعلينا ألّا نخلط بين عيدنا المصرى «النيروز»، وعيد «النوروز» الفارسى الكردى، الذى يعودُ إلى الكلمة الفارسية: (نو-روز)، وتعنى: «اليوم الجديد»، ويتوافق مع بداية فصل الربيع 21 مارس فى التقويم الميلادى. أما سبب تحوُّر الكلمة المصرية: نى- يارؤو إلى «النيروز»، فيعود إلى الإغريق الذين دخلوا مصر غزاةً عام 323 ق. م. وكعادة الإغريق اللغوية فى إضافة حرف (س) إلى أسماء الأعلام، فقد أضافوا إلى الكلمة القبطية حرف (س)، فتحولت كلمة (نى يارؤو) إلى (نيروس)، التى تَحوَّر نطقُها مع الوقت إلى: (نيروز). بطلُ المقال هو العالِم المصرى الكبير «تحوت»، أو «توت» كما اشتهر، ويعود إليه الفضلُ فى ابتكار التقويم المصرى القديم، ولهذا تبدأ الشهور المصرية باسمه (توت) تخليدًا لقامته الرفيعة فى العلوم والمعرفة والفلك واللغة والرياضيات والحساب والألسنيات. وهو مخترعُ حروف الأبجدية الهيروغليفية التى خلّدت حضارتنا الثرية القديمة، لهذا يُعرف كذلك بـ«ربّ القلم»، فكرّمه المصريون القدامى، ونصّبوه إلهًا للحكمة والمعرفة فى الميثولوجيا المصرية تقديرًا لعلمه الموسوعى الغزير. وتُصوِّره الجدارياتُ الفرعونية بجسم إنسان ورأس طائر «أبى منجل». ويكون بهذا النظيرَ الذكورىّ للإلهة «ماعت»، ربّة العدالة فى أدبياتنا المصرية. «ماعت» الجميلة يحتلُّ تمثالُها جدارياتِ جميع محاكم العالم: فى صورة امرأة حسناء معصوبة العينين تمسكُ بيدها ميزانًا، هو «ميزان العدالة»، الذى صار رمزًا للقانون والعدل فى التراث الإنسانى كافة. وأما عُصبة العينين فدلالة على الحياد التام للقاضية، التى لا تنظرُ إلى وجوه الخصوم حتى تحكم بينهم بالحق والعدل بعيدًا عن الأهواء والمنازع الشخصية. فى المحكمة الأوزورية (نسبة إلى أوزوريس) التى تتم فيها محاسبة الموتى، كانت «ريشة ماعت»، رمز الضمير، توضع فى إحدى كفّتى الميزان مقابل الكفة الأخرى التى يوضع فيها قلبُ المُتوفَّى لحظة حسابه، كما ورد بالجداريات وكتاب «الخروج إلى النهار»، فإن ثَقُل قلبُ الميت، وهبطت كفّته عن كفة الريشة، كان المرحومُ مُثْقَلًا بالآثام والخطايا، فيُلْقَى به إلى الوحش الأسطورى «عمعموت» حتى يأكله ويفنى، أما مَن خفّ وزنُ قلبه عن ريشة ماعت، فكان مُتخفِّفًا من الآثام، فيحظى بالخلود فى صحبة أوزوريس. أما مَن يقوم بحساب حسنات الميت وذنوبه ويدوّنها فى دفتره، فكان الإله تحوت، أو توت، الذى نحتفل غدًا بعيده مع رأس السنة المصرية الجديدة.
غدًا الجمعة الساعة 3 عصرًا سنحتفل برأس السنة المصرية فى رحلة نهرية من مرسى «حورس» بكورنيش روض الفرج، مع جماعة (حرّاس الهوية المصرية)، بقيادة المثقف، خبير علم المصريات، الأستاذ «سامى حرك»، والدعوة عامة. سنة مصرية سعيدة، على مصر والعالم. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحترم هُوية الوطن».