بقلم : فاطمة ناعوت
عذوبةٌ تشبه السَّيرَ بحذرٍ فوق غيمةٍ علوية رخوة من حليب السماء. تكتمُ أنفاسَك وأنت تترقّب الأغنيةَ القادمة، وعيناكَ على عصا المايسترو «محمد أبواليزيد» تسألها: «ماذا سوف تمنحيننا الآن من مغارة كنوز بليغ حمدى؟».
لا يليقُ باسم «بلبل الموسيقى» إلا عملٌ أوركسترالى حىّ، ينثرُ أنغامَه الاستثنائية على حناجرَ موهوبةٍ مثل: «رحاب مطاوع»، «نهلة خليل»، «هبة محمد»، «تامر سعيد»، «عمرو أصلان»، و«عماد عبدالمجيد»، الذين أمتعوا مسامعَنا فى «مسرح البالون» على مدار سنوات بأغنيات أم كلثوم، عبدالحليم، وردة، شادية، محمد رشدى، وفردوس السماء المصرى: الشيخ سيد النقشبندى، الذين جدل «بليغ حمدى» موسيقاه على أحبال حناجرهم. بديعٌ أن نشاهدَ صبايا وشبابًا يرقصون الباليه على موسيقى «بليغ»، يعزفها تختٌ شرقىٌّ عظيم فى المسرحية الاستعراضية «سيرة حب»، التى كتبها المبدع «أيمن الحكيم» وأخرجها المخرج ورئيس البيت الفنى «د. عادل عبده»، وأنتجتها وزارة الثقافة والبيت الفنى للمسرح، وقدمتها الفرقة الغنائية الاستعراضية، ومجموعة ممتازة من النجوم، ليردّوا الاعتبارَ جميعُهم إلى أحد كبار ملوك الموسيقى المصرية والعربية: «بليغ حمدى».
«سيرة حب»، التى أسدلتْ ستارتها قبل أيام بعدما أتمّت عامَها الثالث لتفتح ستائرَ قلوبنا على الأصالة والرقى، عملٌ استعراضى غنائى جميل، تجتمع فيه عناصرُ الأوبرا من الفنون السبعة: الموسيقى، الغناء، الشعر، الباليه، الديكور، الفن التشكيلى والنحت والسينوغرافيا، والتمثيل، على شرف أوركسترا حى؛ وليس Play Back كما يحدث فى معظم الأعمال المسرحية الاستعراضية. وهذا ما يليق بقيمة فنية هادرة مثل «بليغ حمدى» الذى طالما حلُم طيلةَ حياته، القصيرة مهما طالت، بتضفير موسيقاه بالمسرح الغنائى والأوبريت المسرحى. فكانت «سيرة حب»، هذا العملُ الثرىّ، هديةً لاسمه الرفيع وردّ اعتبار لهرم مصرى شاهق لم ينل فى حياته ما يستحقه من تكريم يليق به، على أنه حصد قلوب متذوّقى النغم الأصيل فى جميع أرجاء العالم، وذاك هو التكريمُ الأجلّ.
العمل يخلو من الأحداث والدراما إلى حد بعيد، لأنه مسرح استعراضى أوبرالى بالمقام الأول. لكن جرعة الكوميديا المكثّفة التى قدّمها لنا الفنان «مجدى صبحى» وهو يحاكى شخصية الموسيقار محمد عبدالوهاب، فى أسلوب حديثه وجلسته وملابسه وإطراقه وهو يُنصتُ وخفّة ظلّه فى «وسوسته» وهلعه من فكرة العدوى وانتشار الميكروب، كانت كافية لغمر قلوبنا، نحن المشاهدين، بالبهجة والمرح والضحك «الفارْس». جرعةُ الكوميديا تلك عادلتْ موضوعيًّا جرعةَ الشجن ووخز القلب التى ضربتنا ونحن نُنصت إلى «موال النهار»: «عدّى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر/ وعشان نتوه فى السكة/ شالت من ليالينا القمر/ وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها/ جانا نهار مقدرش يدفع مهرها...» التى كتبها العظيم «عبدالرحمن الأبنودي» ومَوْسَقها «بليغ» على صوت «عبدالحليم حافظ» بكائيةً حزينةً جارحة لهزيمة ٦٧. لكنّ الأملَ عاد ورقصت قلوبُنا على موسيقى الجواب عالى المقام: «أبدًا/ بلدنا للنهار/ بتحبّ موال النهار»، فطردنا اليأسَ وحلَّ الأمل.
مشهدُ المحاكمة الفنيّة التى عُقدت للموسيقار بليغ حمدى بعد عودته من منفاه فى باريس، كان المشهدَ الدرامى العمدة. مِنصّةُ المحكمة صمّمها «محمد الغرباوى» على شكل بيانو كرسالة تقول إن الفنَّ لا يُحاكَم إلا فى محكمة الفنّ. وفى المحاكمة استدعى «أيمن الحكيم» أهراماتِ مصر الفنية: ثومة، عبدالوهاب، عبدالحليم، النقشبندى، محمد رشدى، الأبنودي؛ ليكونوا شهودَ نفىّ جاءوا لتبرئة صديقهم «بليغ حمدى» الماثل فى قفص الاتهام، ثم استنطقهم ليطرحوا آراءهم الثرية فى بليغ. فقالت ثومة: «هذا الذى جدّد شباب الموسيقى فى مصر لا تليق به قضبانُ القفص»، وقال عظيم الموسيقى محمد عبدالوهاب: «بليغ حمدى هو أملُ الموسيقى»، وتتوالى الشهاداتُ الثرية التى يقولها الكبارُ عن الكبار، ومع كل شهادة يُقدّم الشاهدُ مقطعًا من فرائد بليغ. وحينما وصلنا إلى صوت النقشبندى شاديًا: «مولاى إنى ببابك قد بسطتُّ يدى»، كانت قلوبُنا قد رقّت وشفّت ورهُفَت وذابت مع نغمات هذا اللحن العالمى والصوت السمائى الآسر، فتعطّلت حواسُّنا وغبنا عن الوعى شجوًا. ولم نستعد أنفسَنا إلا مع صوت القاضى يقضى ببراءة «بليغ حمدى»؛ فضجّت القاعةُ بالتصفيق الحارّ وزغاريد النساء وعانقت أرواحُنا روحَ بليغ فى سماوات الله لنقول له: «مصرُ لا تُهين مبدعيها، وأنت كبيرُهم الذى عشقها وغنّى لها فى النصر والهزيمة». وهبط علينا بليغ على أرجوحة مفتاح صول ليحتفل معنا ببراءته.
تحية للفنان «إيهاب فهمى» الذى أجاد محاكاة شخصية «بليغ حمدى» بفوضاه وبوهيميته وشروده عن الواقع؛ لأنه مأسورٌ فى فضاءات الموسيقى، وتحية احترام لجميع من ساهم فى تقديم هذا العمل الماسّ الجميل.
«الدينُ لله، والوطنُ لمن يُجِلُّ عظماء بالوطن».الوضع في مصر