بقلم : فاطمة ناعوت
لم أرَها مطلقًا. لكننى أعرفُها من ثمارها. «من ثمارهم تعرفونهم». رأيتُ وجهَها فى وجوه بناتها وأبنائها. وتعرفتُ على حنانها وطيبتها من خلالهم. كانت لأبنائِها السبعة أمًّا وأبًا، بعدما رحل الأبُ فى طفولتهم، فأخرجت من بين يديها أطباء ومهندسين زيّنوا وجهَ مصر البهىّ. وحين صار ابنُها الأصغرُ فى الصفّ الثالث بكلية الهندسة، رحلت عن هذا العالم فى هدوء وصمت، فانهدم العالمُ أمام عينيه. كانت بالنسبة له العالمَ بأسره: الأمّ والسند والصديقة والحبيبة. وكان لها الابنَ المُدلَّل بوصفه «آخر العنقود». صعدت روحُها للسماء صباحَ يوم شتوىّ قاسٍ، بينما كان الابنُ يستعدُ لأداء امتحان نصف العام فى مادة الإنشاءات. الحزنُ صعبٌ والامتحانُ صعبٌ. وضعه القدرُ بين نَصليْن حادّين. إما الاستسلامُ للحزن على أمّه وسنده الأوحد فى الحياة، والتخلّف عن الامتحان، أو الربط على القلب الموجوع لإسكات نحيبه، واستعارة قلبٍ جامد ليس يملكه، والذهاب إلى الامتحان الصعب. واختار الصبىُّ البديلَ الأخير لكى يحافظَ على تفوقه، فلا يُخيّب رجاءَ والدته الراحلة. دخل قاعة الامتحان ورمق ورقة مُعلَّقة على الباب مكتوبًا عليها خبر رحيل والدته، فأشاح وجهَه وكأن الأمرَ لا يعنيه. تجاهل كلماتِ العزاء من زملائه وأساتذته واتجه مباشرة إلى طاولته ليؤدى الامتحانَ صامتًا ثم خرج من الكلية، وركض إلى بيته وقد خانته الدموعُ المتحجرة فى عينيه منذ الصباح، ليستسلمَ للوجع والبكاء. وكالعادة جاء تقديرُه «امتياز» فى تلك المادة، مثلما فى بقية المواد، على مدى سنوات الجامعة، التى تخرّج فيها بتفوق، وأصبح معيدًا مرموقًا.
كنا نسمعُ عن نبوغه فى العمارة وموهبته فى الشرح وتوصيل المعلومة بيسر واحترام للطلاب خلال سنوات دراستنا الأولى فى كلية الهندسة جامعة عين شمس. وكنّا نتعجّلُ مرورَ السنوات حتى نصل إليه فى البكالوريوس ليُدرّس لنا. وكان اسمًا على مسمّى. وكأن والدته التى أطلقت عليه اسمَ الطبيب الذى استولدها: «نبيل»، كانت تتنبأ بالاسم والصفة.
غدًا 19 يناير ذكرى رحيل تلك السيدة الجميلة التى أهدتنى ثروةً هائلة: ابنَها الأصغر، زوجى «نبيل»، الذى أهدانى عصفورين رائعين يملآن حياتى شدوًا وفرحًا. التقت عيونُنا فى سكشن قسم العمارة، بالصف الرابع بهندسة عين شمس، أنا الطالبةُ وهو المعيد، واحتفل معى يوم تخرّجى، وساندنى حين امتهنتُ العمل الهندسى فى أحد أكبر المكاتب الاستشارية بالقاهرة، وشجعنى حين قررتُ أن «أرتكب» الانعطافة الجذرية فى حياتى وأسلك طريق الكتابة الوعر، فشدّ أزرى وكان الصخرة التى أرتكن إليها كلما داهمنى الخصومُ بسهامهم.
لغتنا العربية تُسميها: «الحماة». والاشتقاقُ غالبًا من الجذر اللغوى: «حما»، فهى التى تحمى زوجة ابنها. ويؤكد هذا المعنى المصطلحُ الإنجليزى: Mother-in-Law، فهى الأمُّ بالقانون. وتُدهشنى الفلكلوراتُ والأفلام التى تجعلُ من الحماة خصمًا للعروس، ومصدر ضنك وإزعاج لها! لأننى أرى أن أم الزوج منحةٌ سماوية للعروس ليغدو لها أمّان بعدما كان لها أمٌّ واحدة، فقد أحببتُ السيدةَ الجميلة التى أهدتنى رجلًا نبيلًا، ومازلتُ أحفظُ ذكراها بعد رحيلها بسنواتٍ طوال، تمامًا كما أفعل مع أمى بالجسد. وكذلك صرتُ اليوم بعدما صرتُ «حماةً» مع زوجة ابنى. أعتبرُها أنا وزوجى منحةً سماوية أهداها اللهُ لنا، لتغدو ابنة طالما حلمنا بإنجابها حتى وصلتنا عروسًا جميلة فى ثوب الزفاف إلى ابننا.
تلك الجميلة التى لم أرها، أشكرها على زوجى الذى علّمنى فى الجامعة، وساندنى فى الحياة، ومازال يحتوينى بكامل الحنوّ والحب والاحترام بعد ثلاثين عامًا من لقائنا الأول الذى كان على كتاب. التقينا على كتاب. Stories from the Opera. كان أحدَ نهارات عامى الأخير بالجامعة، خرجت من سكشن العمارة فى وقت البريك، وتركت الكتابَ الذى يحكى حكايات الأوبرا فى غلافه الأحمر الجلدى فوق طاولة الرسم الخاصة بى. وحين عدتُ لم أجد كتابى! أخبرنى الزملاءُ أن مهندس نبيل، المعيد، قد أخذه! أسرعتُ إلى غرفة المعيدين لأستردَّ كنزى. فتحتُ الباب فقابلتنى ابتسامتُه الجميلةُ قائلًا: (آسف، سمحتُ لنفسى باستعارته، بعد إذنك!) أسرنى أدبُه، فأخرجتُ قلمى وكتبتُ على الكتاب إهداءً له. وكان أولَ إهداء أخطُّه بقلمى على كتاب، ليس من تأليفى. وكان اللقاءُ، ليس وحسب على محاضرات العمارة وتصميمات السكاشن ومواعيد الكويزات والامتحانات، بل كان اللقاءُ على كتاب. وأىّ كتاب! كتاب عن الموسيقى! وأىّ موسيقى؟! الأوبرا الآسرة، حيث فيردى وبيزيه وبوتشينى وتشايكوفسكى وفاجنر وشتراوس.
رحمةُ الله على حماتى التى كانت ستفرح بأحفادها مازن وعمر، وابنتنا الجميلة فاطمة الزهراء، زوجة ابنى، التى صارت ابنتنا بالحب والاختيار والقانون. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يقدّس أمهاتِ الوطن».