بقلم : فاطمة ناعوت
٨ أكتوبر «اليوم العالمى للإبصار» الذى يوافق الخميسَ الثانى من شهر أكتوبر فى كلّ عام. ويوم ١٠ أكتوبر، احتفلَ العالمُ بـ«اليوم العالمى للصحّة النفسية» ويوم ٢٨ أكتوبر من كلّ عام، نتذكّرُ بأسى يومَ رحيل رجل استثنائيّ «كامل الإبصار» «تامّ الصحة النفسية».
هذا الرجلُ الجميل، حين ألتقيه المرةَ القادمة، سأطلبُ إليه أن أرافقَه مشوارَ حياته، لا أتركه لحظةً. أقرأ له، أرتِّبُ مكتبَه وكتبَه ومكتبتَه. أجلو الغبارَ عن المقعد الذى يجلس عليه. وبرُقعةٍ من جلد غزال، سوف أصقِلُ عدساتِ نظارتِه السوداء، التى تُخبئ وراءها عينين نجلاوين، أبصرتا أكثرَ مما أبصرتْ عيونُ البشر مجتمعين، وأعمق.
سوف أطرحُ عليه كلَّ ما يدور فى رأسى من أسئلةٍ لا إجابةَ لها. وأُنصِتُ إذا ما هَمَّ بالإجابة. سأطرحُ كلَّ يومٍ سؤالًا واحدًا، لكيلا تنفدَ أسئلتى قبلما أشبعُ من حضوره الآسر. لكنْ، هل تنفدُ الأسئلةُ فى حضورٍ غَنٍّى كحضوره؟! كلاّ! سوف تطرحُ الإجاباتُ أسئلةً؛ وتتوالدُ الأسئلةُ حتى ينفدَ عمرى قبل أن تنفدَ ألغازٌ تسكنُنى، ولا أشبعُ من حضورٍ يحتاجُ إلى ألف عين لتُحيطَ به.
حين يُطرِقُ برأسِه ليغرقَ فى تأملاته، أصمِتُ. فالصمتُ فى حَرَم الجمالِ جمالٌ. وهذا الرجلُ قطعةٌ بشرية من الجمال، خلقَه اللهُ ليكونَ قبسَ نورٍ للشعراء والأدباء والحائرين. أتأملُ لوحةَ الجلال المهيب. أتلصَّصُ على لحظةٍ هاربة من الزمن، وأخترقُ هذا الرأس العظيم، عساى أعرفُ كيف تعتملُ الفكرةُ فى ذاك المخّ الاستثنائى. وحين يشْخَصُ ببصره للأعلى وينظرُ نحو اللا شيء، أعرفُ أن الفكرةَ قد اكتملت، وأن مقالاً جديدًا أو دراسةً توشكُ أن ترى النور. وأن القرّاءَ الظمآنين للعلم، على موعد مع رؤية جديدة، لم تُدوّنها ذاكرةُ الإنسانية، سوف تفتحُ دروبًا تُفضى إلى عالمٍ لم يرَوه من قبل.
سوف يحكى لى عن الكروان الذى حوِّم حول قبر «هنادى» الصبية التعسة التى غدرَها الحبُّ والأهلُ والجهالة. يصدحُ الكروانُ بصوت حزين: «المُلكُ لكْ لكْ لكْ، يا صاحب المُلك» لكى يُنبئ الدنيا كيف تُعذِّبُ البناتِ قساوةُ الرجال: العاشق منهم، والعائلُ. ويخبرنى عن «نفيسة». وكيف تُطيحُ صورتُنا بجوهرنا. ينظرُ الناسُ إلى وجوهِنا؛ فإن كانت مليحةً؛ أحبّونا وطرحوا تحت أقدامنا الفردوسَ، وإن كانت دميمةً؛ لقّبونا بـ«شجرة البؤس». وينسون فى غُمرة هذا أن يتأملوا قلوبَنا التى تحملُ الجنّةَ، بقدر ما تحملُ من جحيم.
أسألُه: «ما العبادةُ يا أستاذى؟» فيقولُ: «كلُّ عملٍ صالحٍ عبادة». وما العلمُ؟ فيُخبرنى: العلمُ يُكلِّف طُلابَه أهوالاً ثِقالا. وما الإيمان يا حبيبى؟ فيُعلّمنى: محبةُ المعرفة لا تفترقُ عن الايمان. «وما السعادةُ يا مُعلّمى؟ فيقول الأستاذُ: السعادةُ هى ذلك الإحساسُ الذى يراودُنا حين تشغلُنا ظروفُ الحياة عن أن نكون أشقياء.
أسألُه وأنا مُطرقةً فى حياء: وما الحبُّ؟ فيشخَصُ إلى الأعلى قائلا: الحبُّ لا يسأم ولا يمَلُّ ولا يعرفُ الفُتور، عليكَ أن تُلحَّ فى حبِّك حتى تظفرَ بمَن تحبُّ، أو تفنَى دونه. ومتى يحينُ الرحيلُ يا سيدى؟ فيقولُ: «تتنازلُ عن مُتعَك الواحدةَ تلوَ الأخرى؛ حتى لا يبقى منها شىء. عندئذ تعلمُ أن وقتَ الرحيل قد حان. وأسألُه: وهل ترحلُ وأنت راضٍ عن نفسك يا حبيبى؟ فيهمسُ مُحذِّرًا: «إياك والرضى عن نفسِك؛ فإنه يدفعُك إلى الخمول، وإياك والعجب، فإنه يورّطك فى الحمق، وإياك والغرور فإنه يظهرُ للناس نقائصَك ولا يخفيها إلا عليك.
أُحبُّ هذا الرجلَ الذى منحته فرنسا وسامًا رفيعًا فى الآداب. وحين وقع العدوانُ الثلاثيّ على مصر، ردَّ الوسامَ بكبرياء؛ رافضًا تكريمَ دولةٍ تعتدى على وطنه. ما أعظمَ هذا الرجل! رحلَ هذا العظيمُ فى أكتوبر ١٩٧٣، وهو لا يعلمُ أن طفلةً صغيرة أحبّته، وتركت الحقلَ الهندسى بعدما درسته، لتدخلَ حقلَ الأدبِ والكتابة، لكى تقتربَ من مقامه الرفيع. «طه حسين» سلامٌ عليك. وأُهديكَ هذه الكلمات من ديوانى «فوق كفّ امرأة» ٢٠٠٥
(العمياءُ/ التى أبصرتْ فجأةً/ بعد جراحةٍ مرتبكةٍ/ تمَّتْ على عَجلٍ/ يناسبُ ارتكابَ الشِّعرِ/ فى صورتِهِ المحرَّمةْ./ عهدٌ طويلٌ مع الشخوصِ إلى الأعلى/ بأحداقٍ فارغةٍ/ وماضٍ مؤجّل/ سمعتْ خلالها عشراتِ الكُتبِ. لكنَّها حين راقصتْ الأعمى عندَ سَفْحِ الهضبةِ/ علَّمها أن صعودَ الرُّوحِ/ مرهونٌ بانفصالِها الشَّبكيِّ. لا سبيلَ للرجوعِ الآن/ المعرفةُ فى اتِّجاهِها/ والجهلُ فردوسٌ غائب./ وتظلُّ الفكرةُ تُطِلُّ برأسِها/ كلما راودَها البصرُ/ تسكبُ ظِلَّينِ واقفيْن/ فى عتمةِ ردهةٍ مبهورةِ الأنفاسِ/ صامتةٍ./ ظلاَّنِ/ أحدُهما يمارسُ مهنةَ التنويرِ/ والآخرُ يجتهدُ أن يقرأَ. القراءةُ لا تحتاجُ إلى عينين/ هذا ما تأكَّد لها/ حين أبصرتْ فجأةً/ ولم تجدْ كتابًا).
الدينُ لله، والوطنُ لمن يُبصرُ طريقَ الوطن