بقلم : فاطمة ناعوت
يتجددُ اللقاءُ مع أدعياء الفتن فى مثل هذه الأيام من كل عام مع أعياد الكريسماس يتفنّنون فى ضخ النكد فى القلوب قبل استقبال العام الجديد. ومصرُ، من بين جميع أراضى الله، حرىٌّ بها أن تقول لكلّ شعوب العالم: «ميرى كريسماس»، فهى الأرضُ الطيبة التى استقبلت الطفلَ الجليل، وأمَّه البتول، والقديس يوسف النجار، حين فرّوا من هيرودس، قاتل الأطفال بفلسطين، إذْ أراد قتل السيد المسيح طفلًا، عليه وعلى أمّه السلام؟ الطفل المقدّس الذى سوف يكبر ليغدو رسولَ السلام للإنسانية كافة، «يجول يصنع خيرًا»، بعدما طوّبه اللُه بالسلام عليه: «يومَ وُلِد ويومَ يموتُ ويم يُبعثُ حيّا». أرضنا الطيبة كانت لتلك العائلة المقدسة: «ربوة ذات قرار ومَعِين». جالت فيها سيدةُ الفضيلة فتفجّرت تحت قدميها عيونُ الماء، وشقشقت زهورُ البيلسان، فامتلأت أرضُ مصرَ بالبركة والنور والخصب الذى لا يبور.
طافت العائلةُ المطوّبة من شرق مصر إلى غربها إلى جنوبها، قبل أن تعودَ من حيث أتت. سافرت العذراءُ ووليدها من فلسطين داخلين مصرَ من «رفح»، ثم «العريش». ومنها إلى «فرما»، محطتهم الأخيرة فى أرض «سيناء» الطيبة. بعدها دخلوا «تل بسطا» وهى مدينة صغيرة كانت تسمى وقتئذ «مدينة الآلهة»، جوار الزقازيق الراهنة. واستأنفوا الرحلة حتى وصلوا إلى «مسطرد» ثم «بلبيس» ثم شمالًا نحو «سمنّود» ثم غربًا نحو «البُرلّس» ثم «سخا». ثم عبرت العائلة المقدسة ضفة النيل الغربية نحو الشرق ونزلت فى «وادى النطرون». بعدها دخلوا منطقة «المطرية» و«عين شمس». ومازالت هناك شجرة عتيقة اسمها «شجرة مريم» حيث تفجّرت هناك بئر ماء روَت السيدة العذراء وطفلها. ثم ارتحلت الأسرةُ إلى «الفسطاط»، وهى المنطقة المعروفة باسم «بابليون» بمصر القديمة حيث اختبأوا فى مغارة محلّها الآن كنيسة «أبو سرجة» الأثرية. بعدها دخلوا منطقة «المعادى» ومكثوا فى البقعة التى صارت الآن كنيسة «السيدة العذراء» بالمعادى. ثم سافروا جنوبًا نحو صعيد مصر ومكثوا برهة فى قرية «البهنسا». ثم ارتحلت العائلة المقدسة جنوبًا نحو «سمالوط»، ومنها عبرت النيل شرقًا حيث «جبل الطير» ودير السيدة العذراء. ثم عبروا من جديد من شرق النيل إلى غربه حيث بلدة «الأشمونيين». ثم ساروا جنوبًا حيث قرية «ديروط» التى مكثوا بها عدة أيام. بعدها دخلوا مدينة «القوصية» ثم غربًا حتى قرية «مير». بعدها دخلت العائلة الطيبة منطقة «دير المحرّق»، وهى أهم محطّات الرحلة المقدسة التى استقرّت بها العائلة قرابة الشهور الستة، وبُنيت حول الغرفة التى سكنتها العذراءُ ما يُعدُّ أقدم كنيسة فى العالم، إذ كان السيد المسيح طفلًا لم يُكمل الرابعة من عمره. ثم كانت محطتّهم الأخيرة فى «جبل درنكة» بأسيوط حيث سكنوا مغارة قديمة. لتبدأ بعدها رحلة العودة إلى أرض فلسطين.
طوال تلك الرحلة كانت أرضنا تذوب حبًّا ورحمةً لتلك الفتاة التى اصطفاها الله من بين العالمين لتحمل فى أحشائها، من دون رجل، هذا الرسول المطوب، ليكون وأمّه آية للعالمين. تتفجر عيون الماء فى الصحراء القاحلة، وتنبتُ الزهورُ من بين طيّات الصخور. ويتساقط من النخيل الرطبُ شهيًّا ريّانًا فوق كتفيها المجهدين بالسفر والخوف على وليدها من بطش الشرير. لهذا بارك الكتابُ المقدس أرضنا الكريمة التى استقبلتها بالحبّ، وبارك شعبها الطيبَ الذى أحسن استقبال الطيبين، فقال: «مباركٌ شعبى مصر».
هل يجوز بعد كل هذا التاريخ الذى سطرته مصرُ فى قلبها للسيد المسيح وأمه البتول أن يكون لبلد آخر عروةٌ وثقى ورباطٌ أزلى أبدى يربط الأقباطَ بأرضهم مصر، التى سمّاها أجدادنا الفراعنة «ها كا بتاح»، أى «منزل الروح»، ومنها اشتقت كلمة «قَبَط»، التى صار نطقُها «إيجبت» Egypt؟!
فى جريدة «المصرى اليوم» بتاريخ ٢ يناير ٢٠١٢، كتبتُ مقالًا عنوانه «ميرى كريسماس رغم أنفهم»، وكنتُ أعنى «أنف» المتطرفين الغلاظ الذين أفتوا بحرمة أن نقول لأشقائنا: «ميرى كريسماس». وفى العام التالى كتبتُ مقالًا عنوانه: «ميرى كريسماس كمان وكمان»، وفى ٢٠١٥ كتبتُ: «ميرى كريسماس رغم غلاستهم!»، ثم «ميرى كريسماس ولو كرهوا» عام ٢٠١٦، وفى ٢٠١٧، كتبتُ: «ميرى كريسماس يا سامح»، و«سامح» هو الشيخُ الطائفىُّ «سامح عبدالحميد»، الذى يصرخ هو وأشباهه كلَّ عام بملء ضجيجهم مُحرِّمين تهنئة المسيحيين فى أعيادهم والترحُّم على موتاهم! وفى يناير ٢٠٢٠ كتبتُ مقالًا عنوانه: «ميرى كريسماس بأمر الحب وحمى القانون». واليوم أقول لكل أقباط مصر، مسيحيين ومسلمين: «ميرى كريسماس يا مصر»، التى شعبُكِ فى رباطٍ إلى يوم الدين، ولو كره الكارهون. اللهم اجعل ٢٠٢١ أطيب من سابقه.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحترم أبناءَ الوطن