بقلم : فاطمة ناعوت
خلال أيام قليلة من نهاية العام الماضى ٢٠٢٠، فقدتُ عشرة أصدقاء مستحيل تعويضهم. بعضهم كانوا زملاء فى كلية الهندسة، وبعضهم زملاءُ فى الحقل الأدبى، وبعضهم أساتذة لى تعلّمتُ منهم وأدينُ لهم. وأولَ أمس خسرتْ مصرُ هرمًا من أهرامها العظمى فى الدراما والتنوير والثقافة، هو الكبير الراحل «وحيد حامد». الموتُ صار حدثًا اعتياديًا فى زمن كوفيد ١٩، وصارت صفحات سوشيال ميديا قاعات عزاء ورثاء. أؤمن بأن جميع البشر من مليارات هذا الكوكب، قد صاروا اليومَ جاهزين لتقبّل فكرة الاختطاف الوشيك بالموت. اختطافُ أحباء لنا، أو اختطافنا نحن. ولأننى أكره بثّ الطاقة السلبية، وألجأ دائمًا إلى نشر روح الحياة والأمل، فكرتُ اليومَ، ومع بداية هذا العام الطيب بإذن الله، أن أكتب عن قيمة «الوعى بالحياة»، حتى نتأملها، بديلا عن فكرة التفكير اليومى فى الموت تزامنًا مع زمن كورونا وسلالاتها.
فى رواية «فيرونيكا تقرر أن تموت»، شيّدَ «باولو كويلو»، الروائى البرازيلى الشهير، مبناه الدرامى على فكرة «الوعى بالحياة والوعى بالموت». مقدارُ ذلك الوعى لدى الإنسان يُشكّل كثافةَ وجوده ومدى استعداده للحياة أو للموت. تستقبل إحدى المصحّات العقلية فى سلوفينيا شابّة جميلة ومتحققة حاولت الانتحار. بعد إفاقتها من الغيبوبة التى داهمتها بعد ابتلاع علبة الأقراص المنومة، قالت فيرونيكا أثناء التحقيق معها إنها فعلت كلّ ما يمكن فعله فى السنوات الأربع وعشرين التى عاشتها فى هذه الحياة: نشأت فى عائلة ثرية مترابطة، وتعلّمت تعليمًا جيدًا، وعملت بوظيفة مرموقة، وأحبّت وأحبها كثيرون واستمتعت بكل لحظة فى حياتها. ثم أصبح كلُّ شىء فى الحياة مُكررًا ومُضجرًا ومتوقّعًا! فلماذا عليها أن تعيش سنواتٍ إضافية وعقودًا طويلة حتى يقرّر الموتُ مداهمتَها بإرادته فى شيخوختها؟! لماذا لا تذهب هى إلى الموتُ بكامل إرادتها الحرّة وهى فى شرخ شبابها وتحققها وصحتها وبهجتها؟! ما فائدة ما تبقى من العمر مادام كلُّ ما يجرى فيه معروفًا سلفًا ومتوقّعًا وناقص الدهشة وحتمى النهاية؟! إن كان لا بدّ من الموت فى نهاية الرحلة، فلماذا ننتظره ولا نذهب إليه نحن بملء إرادتنا؟ أنصتَ إليها طبيبُ الأمراض النفسية والعقلية فوجد أمامه امرأة شابّة كاملة الوعى والإدراك والذكاء. لم تكن بحاجة للخضوع إلى علاج نفسى أو دواء عقلى حتى تكفَّ عن محاولات الانتحار. لكنها بحاجة إلى «صدمة معرفية ووجودية» تجعلها تُدرك أن الحياةَ قيمةٌ فى ذاتها، وأن ثمّة ما يستحق أن يُعاش من أجله، وأن الانتحارَ عبثٌ ومراهقة وهروبٌ. هنا يفكّر الطبيبُ الذكى فى حيلة عظيمة. يقرّرُ «حقن» الشابّة المنتحرة بمصل «الوعى بالحياة»، إن جاز القول، عن طريق إيهامها أن محاولة انتحارها بابتلاع الأقراص المنومة قد أسفر عن تلفٍ هائل فى عضلة القلب، وأن أيامًا قليلةً أو أسابيعَ معدودة هى كل ما تبقى لها فى هذه الدنيا. هنا تدركُ «فيرونيكا» قيمة أيامها التى توشك على الانتهاء، فترغبُ فى الحياة وتعزفُ عن الموت. لكن الطبيب أصرّ على إيهامها أن موتها وشيكٌ وحتمىّ، ولا حلَّ علميًّا أو طبيًّا لعلاج القلب التالف، وعليها أن تتقبّل تلك الفكرة. قررت فيرونيكا أن تستغلَّ كل دقيقة من كل ساعة من كل يوم من عمرها القصير الموشك على الانتهاء. فى تلك الأيام القليلة تعلمت فيرونيكا عزف البيانو وراحت تساعد زملاءها فى المصحة العقلية على تجاوز مشاكلهم، فساعدت «زيدكا» التى تعانى من الاكتئاب الحاد، و«مارى» التى تداهمها نوباتُ الخوف المرضى والفوبيات، و«إدوراد» الذى يكافح الفصام العقلى، وتجرّب فيرونيكا مشاعر الحبّ الحقيقى فتتمسك أكثر بالحياة، وترفضُ الموتَ.
إدراك الإنسان أن الموتَ وشيكٌ، يجعله يُقدّر ويُثمّن كل دقيقة من عمره قبل نفادها. وعلى العكس من ذلك، فإن شعورنا الغريزىّ بأن الموتَ قد يصيبُ الجميعَ إلا نحن، لا يسمح لنا بإدراك قيمة الحياة واحترام كل يوم جديد تشرقُ فيه الشمسُ علينا أحياءً. شعورُنا أن الموتَ بعيدٌ، لا يجعلنا ندرك عدد الأشياء العظيمة التى بوسعنا أن نؤديها خلال ساعة من ساعات حياتنا التى نهدرها هباءً.
كلُّ لحظة من أعمارنا هى حياةٌ كاملة علينا اقتناصها. أتذكّر الآن عبارة كتبتها «سوزان كولينز» فى كتابها «Catching Fire»: (لأننى أستطيعُ أن أحصى على أصابعى عدد غروبات الشمس المتبقية فى حياتى، فلستُ أرغبُ فى أن يفوتنى أىٌّ منها). الوعىُ بقيمة الحياة، هى رسالةُ الإنسان على الأرض. وتُقاسُ حياتُنا ومستوى ثرائها بحجم ما قدمنا لأوطاننا، وعدد مَن ساعدنا من بشر على اجتياز أزماتهم وعلاج أوجاعهم وضخ المعارف فى عقولهم.
«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».