لقاءٌ ثرىّ على قناة المحور، جمعنى بالإعلاميتين الجميلتين: مها عثمان ورانيا حمودة، تحدثنا فيه عن مفهوم العدل، والرضا. وطرحتُ رؤيتى الخاصة حول «العدل»، الذى هو اسمٌ من أسماء الله، وهو أن ينال كلُّ إنسان ما يستحقه وما يحتاج إليه، وهذا يختلفُ جذريًّا عن «المساواة»، التى هى ضربٌ من المستحيل، لأنه لا إنسان فوق الأرض مساوٍ لإنسان آخر، بل إن الإنسان ذاته لا يشبه نفسَه بعد دقيقة من الزمان: «أنت لا تنزل النهر الواحد مرتين»، كما قال هيراقليطس بن بلوسون، فلا النهرُ هو النهرُ ذاته بعد مرور دقيقة، ولا أنتَ أنتَ بعد دقيقة من قراءة كلمتى هذه. الكونُ مجبولٌ على التحوّل والتغيّر، وهذا أمرٌ طويل ليس مجاله هذا المقال. وطرحتُ كذلك مفهومى عن «الرضا»، كونه منحةً إلهية يمنحها اللهُ لذوى العزم من البشر، القادرين على تأمّل ما يمتلكون من منحٍ ونِعم تساوى إحداها كنوزَ الأرض، على عكس غيرهم ممن لا يرونها، ولا يشبعون، فلا يرضون.
دعونى أحك لكم حكايتين. واحدة واقعية من مصر، والأخرى من الفولكلور الإفريقى. وسأبدأ بالثانية لأختتم بالجمال الصافى.
أبٌ فاحشُ الثراء، كان يرجو أن يعلّمَ ابنَه ماذا يعنى العَوَزُ والفقرُ، والحرمانُ من أسباب الرفاهية والرغَد التى وفرّها له، حتى يعرفَ كم هو محظوظٌ أن يكون له أبٌ مثله. أرسل الأبُ ابنَه لكى يقيمَ بعضَ الوقت مع فقراء الفلاحين فى مزارعهم، ليعود من هناك شاكرًا النعماءَ التى تُحيط به. أمضى الابنُ ثلاثةَ أيامٍ وثلاثَ ليال فى رحلته الريفية الصعبة، ثم عاد إلى المدينة، حيث قصر والده المنيف بكامل رغده وأبهائه. جلس إلى أبيه، فسأله الأبُ عن تجربته، فقال الولدُ إنها كانت إيجابيةً وثريةً وزاخرة بالمعرفة، فتساءل الأبُ إن كان قد أدركَ المعنى الحقيقى للثراء والفقر، وهل تعلّم أىَّ جديد من أولئك الفقراء؟
فأجابه الابنُ المثقفُ بما يلى:
تعلّمتُ أن لدينا كلبًا واحدًا، بينما لديهم أربعة كلاب، وأن لدينا بِركة سباحة واسعة فى حديقتنا الشاسعة، مليئة بالمياه المُعالَجة كيميائيًّا. ولديهم نهرٌ تجرى فيه مياهٌ بلّورية صافية، زاخرة بمختلف أنواع الأسماك الملونة.
نستخدم الكهرباء لكى نضىءَ حديقتنا، ولديهم قمرٌ ونجوم تنير حقولَهم وبساتينهم.
حديقتنا تمتد حتى نهاية الجدار الذى يُسوّرها، فيما أراضيهم تترامى حتى خط الأفق.
نحن نشترى طعامَنا منهم؛ وهم يزرعون طعامَهم فى حقولهم، يحصدونه، يطهونه.
موسيقانا تأتى من أسطوانات مبرمجة؛ بينما نهارُهم يُشرق ويُمسى ليلُهم على سيمفونيات متصلة من حناجر الطيور، وكريكيت الحقول، ونداءات الحيوانات، ومختلف أصوات الطبيعة من حولهم. وبين الحين والحين، تصاحبُ تلك الأناشيد الطبيعية أصواتُ جيرانهم يعملون ويفلحون الحقول المجاورة.
عرفتُ أننا نستخدم الميكروويف والعديد من الأجهزة الحديثة، ولكن طعامنا تنقصه النكهةُ التى فى طعامهم، ذاك الذى يُطهَى على شعلة النار الهادئة.
تعلّمتُ أننا نحمى أنفسنا ببواباتٍ مزوّدة بأجهزة الإنذار ضد السرقة، وهم يعيشون وأبوابهم مفتوحة على مصاريعها محميّين بصداقة جيرانهم ومحبتهم.
تعلّمتُ أن حياتنا تعتمد على الهواتف الخلوية الجوالة، والكمبيوتر، والتليفزيون، وهم أثرياءُ بالحياة، والشمس، والسماء، والأرض، ومواشيهم ودواجنهم، وجيرانهم.
كان الأب يُنصتُ مذهولًا من منطق ابنه وطريقة رؤيته للأمور. وهنا استأنف ابنُه قائلًا: باختصار يا أبى، أشكركَ كثيرًا لأنك جعلتنى أرى بعينى كم نحن فقراء ونميل، مع كلّ يوم يمرّ، إلى أن نصبحَ أفقر لأننا نباعدُ أكثر بيننا وبين الطبيعة، تلك الهبةُ التى منحها اللهُ للجنس البشرى. نحن نمضى حياتنا مشغولى البال بكيف نُراكِمُ الممتلكاتِ والثرواتِ والمكاسبَ أكثر مما ننشغل بكيفية إمتاع أنفسنا بهبة الطبيعة الرائعة، وبأن نكون شاكرين وفرحين لكوننا أحياءَ لم نزل.
انتهتِ القصّةُ التى ترجمتُها لكم من كتاب: Living a Slow Life in Rural South Africa، «العيشُ حياةً هادئة فى ريف الجنوب الإفريقى». والقصة بعنوان: What it Means to Be Poor. «ماذا يعنى أن تكون فقيرًا». وفى مقال قادم أقصُّ عليكم قصة سيدة مصرية من سمالوط، اسمها «مبسوطة»، تنطبق عليها الآية القرآنية: «تحسَبُهم أغنياءَ من التعفّف». مات زوجها بالفشل الكلوى، وترك لها خمسة أبناء مصابين بضمور المخ. دخلها جنيهاتٌ قليلة وتتصدق من أعوازِها على الأكثر فقرًا، وابتسامة الرضا لا تفارق وجهها المصرىّ الجميل وهى تقول: «ربنا ماحبش حد قد ما حبنى، وعمرى ما طلبت منه حاجة وقالى لأ. هو عاوز ولادى كده، وأنا راضية بمشيئته». «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ بالوطن».