بقلم : فاطمة ناعوت
إنها ذكرى فارس الحكى الذي تحقّق له حلمٌ يراود كلَّ فنان: أن يموت في حقله وصومعته؛ فرحل وهو يكتب مقاله اليومى، فجر يوم ٩ سبتمبر ٢٠١١. إنه الجميل «خيرى شلبي» صاحب السبعين كتابًا. طاردته الكتابةُ منذ استلبته هوايةُ التجوال بين أرصفة الكتب ومكتبات الكتب القديمة. فراح يُجرّب قلمَه في: الشعر، المسرح، النقد، الأدب الإذاعى، حتى تيقّن أن تلك الأشكال الكتابية المتباينة، قد صاغته روائيًّا وقاصًّا لا مثيلَ له.أوقعه البحثُ الدؤوب بين أضابير الكتب القديمة على اكتشاف أن مسرحية «على بك الكبير» لأمير الشعراء «أحمد شوقى»، ليست كما يُشاع أولَ مسرحية شعرية في تاريخ المسرح المصرى، بل سبقتها تجاربُ كثيرةٌ تصل إلى المائتين، تغافل عنها التاريخ. منها مسرحيةٌ للزعيم المصرى مصطفى كامل عنوانها: «فتح الأندلس». وهو ما دعاه لتقديم حديث أسبوعى على إذاعة البرنامج الثانى عنوانه: «مسرحيات ساقطة القيد»، تقديم الروائى «بهاء طاهر». كذلك عثر على مذكرة صغيرة مكتوب عليه: «قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلى»، بإمضاء القاضى «محمد نور». فوجد أنه أمام نصٍّ أدبى رفيع، مكتوب بصياغة قانونية راقية، بقلم القاضى الشاب الذي حقّق مع العظيم «طه حسين» في واحدة من أشهر قضايا العصر، وأخطرها. لم يخرج قرارُ «محمد نور» كـ تكييف قانونى، أو محضر ضمن وثائق قانونية، بل صِيغ كأنما هو بحثٌ علمىّ ذو صياغة أدبية رصينة. فتساءل خيرى شلبى: هل صنعتِ النهضةُ الثقافية التي أسسها «طه حسين» ورفاقُه مثل هذا النائب المثقف؟ أم أن الوسطَ المثقف المستنير (آنذاك)، هو صانعُ النهضة التنويرية التي أفرزت «طه حسين»؟ وتذكّر السؤالَ الجدلى: الدجاجة أولا، أم البيضة؟!
إنها «الأوانى المستطرقة». ذاك أن «طه حسين» حين جلس على كرسى الاتهام، أمام قاضٍ من تلامذته، كان في الواقع يجنى ثمارَ غرسه الاستنارى الطيّب، الذي أينع رجالاً في مواقع السلطة يُقدّرون قيمةَ العِلم والعالِم وحرية البحث والاجتهاد. وطرح «خيرى شلبى» سؤالا مهمًّا حول محاكمة طه حسين عام ١٩٢٦، تلك التي حُسمت لصالحه: هل أنصفه قرارٌ سياسى؟ أم أنصفه قانونٌ يُقرُّ بحرية الاجتهاد وحرية التعبير؟ تلك كانت قضية كتابه: «محاكمةُ طه حسين». ومازلنا بحاجة إلى ألف «طه حسين» كقائد تنويرى، وملايين من ذلك النائب العام المثقف «محمد نور»؛ لمحاربة صوت الجمود والرجعية، والكلام باسم الله، والظلامية التي لا تليق بمصرَ المثقفة. «خيرى شلبى» كاتبُ المهمشين والفقراء، لم تكن تحلو له الكتابةُ إلا في صومعته بين المقابر. انتبه مبكرًا في صباه إلى ازدواجية اللغة في حياتنا. فنحن نتكلمُ بالدارجة المصرية، ونكتب بالفصحى. ثم نظر حوله فوجد عشرات المعاجم والألسن على شريط وادى مصر من الإسكندرية حتى أسوان، مرورًا بمئات المدن والقرى والنجوع التي يمتلك كلٌّ منها لسانًا مغايرًا، ومعجمًا مختلفًا. كذلك على مستوى المهن والحرف والطبقات والأعمار. فثمة معجمٌ للنجار، والحداد، والساعى، والموسيقى، والمهندس، والخبّاز، والكوّاء، والناضج، والطفل، والمتعلم، والأمىّ، وهلمّ جرا. كان رجالُ قريته يقصدونه ليكتب لهم الخطابات إلى ذويهم. يُنصت إليهم ثم يكتب بالفصحى. وحين يقرأ عليهم ما كتب، يرفضونه، ويصرّون على كتابة منطوق كلامهم بالعامية. أما أطرف ما حكاه لى عمّا حدث بينه وبين عميد الأدب العربى، فكان حين تماكر على الأستاذ «طه حسين»، الذي لا يسمحُ بالتهاونِ مع الفُصحى، حتى في المِزاح. «طه حسين» الذي انتقد «ليلى مراد» حين غنّت في فيلم «غزَل البنات»: «أبجد هوز حُطّى كلمن»، لأنها قالت: «شكل الأستاذ بقى منسجمٌ» وكان يريدها: «منسجمًا»، لأنها خبرُ «بقى»، بمعنى: «أصبح»، من أخوات كان. قرر «خيرى شلبى» في بداية حياته أن يكتبَ رواية: «الأيام» كمسلسل للإذاعة. وأراد أن يحصل على الموافقة القانونية من كاتب العمل. ذهب إلى بيت «طه حسين» بالزمالك، فرحّب الأستاذُ بالفكرة، شريطةَ أن يكون الحوارُ بين الشخوص في المسلسل بالفصحى! وأُسقِطَ في يدِ السيناريست الشاب! كيف يتكلمُ أبناءُ الصعيد في يومياتهم بالفصحى؟! ولم يكن ممكنًا مساومة الأستاذ في شرطه الصعب، وليس ممكنًا، كذلك، أن يتخلى الشابُّ عن حلمه؛ فالتجأ إلى دهاء الفنان والمصرىّ في آن. كتب الحوار على النسق الذي يتَّسِقُ فصحًى ودارجةً في آن! مثلا: «معى جوابٌ، أَحْلِفُ بالِله لو شَافَهُ مخلوقٌ لَرُحْتُ في داهية»، هكذا سيقرؤها «خيرى شلبى» على «طه حسين»، لانتزاع موافقته. بينما في المسلسل سينطقُها «عبدالوارث عسر»، بتسكين نهايات الكلمات، مثلما نحن في دارجتنا المصرية اليومية، مع تلوين اللسان باللكنة الصعيدية. رحم الله مبدعنا الكبير. «الدينُ لله، والوطنُ لمبدعى الوطن».