بقلم : فاطمة ناعوت
هل بوسعنا، نحن المصريين، أن نُكوّن فريق أوركسترا مصريًّا قُوامه تسعون مليون عازف؟ فتكون أنت عازف تشيللو، وأنا عازفة هارب، وابن خالتك عازف بيانو، وابنة خالتى عازفة ڤيولين، وجارى العجوز عازف كونترباص، وجارتى الشابة عازفة ماريمبا، وصديقة طفولتى عازفة فلوت؟ على أن تتراوح عيوننا جميعًا بين نوتة السيمفونية التى نعزفها وهى: (صالح مصر)، وبين المايسترو قائد الأوركسترا وهو: (قائد مصر)؟ اسمعوا معى ما يلى:
(فريقى الموسيقىّ الضخم الذى ترونه الآن، مُكوّنٌ من رجال ونساء جاءوا من بلادٍ كثيرة مختلفة من أنحاء العالم. لهذا فإنهم شديدو الاختلاف. أعراقٌ وألوانٌ مختلفة، عقائدُ ومعتقداتٌ ومذاهبُ عديدة، أفكارٌ وأيديولوجيات وتوجّهاتٌ وثقافاتٌ متباينة. ولكننا، هذا الجمع المتنافرُ، سنتوحّد بعد برهةٍ فى معزوفة واحدة، كأننا نحمل روحًا واحدة، وصوتًا واحدًا، وعينًا واحدة تقرأ نوتةً واحدة، وتتبعُ عصا واحدة فى يد مايسترو واحد. نعيشُ معًا، ونعملُ معًا، فى سلام وتناغم ومحبة حقيقية لا تعرفُ الشِّقاقَ ولا الشتاتَ ولا التناحر. لأن نجاحَ كل فردٍ فينا، هو نجاحٌ لنا جميعًا، وفشلُ أى عضو منّا، هو إخفاقٌ محقّقٌ للمعزوفة التى نعزفُها، وبالتالى: فشلٌ لنا جميعًا دون استثناء. طاقم الأوركسترا أُناسٌ يعيشون معًا، ويعملون معًا فى سلام وهارمونية، دون تناحر ولا نزاعات.)
هذا ملخّصُ الكلمة البليغة التى ألقاها ملك الڤالس والمؤلف الموسيقىّ الهولندى الشهير أندريه ريو، فى قاعة راديو سيتى ميوزيك بنيويورك قبل أن يبدأ الأوركسترا فى عزف عدة مقطوعات موسيقية بديعة، امتدت ساعات طوالا مرّت علينا كلحظة خاطفة؛ لأن الجمالَ الفريد، كما تعلمون، يمرُّ مرور السحاب.
أما الملك ريوو، André Rieu، فمن مواليد 1949. بدأ عزف الڤيولين ودراسته فى الكونسرڤتوار الملكى البلچيكى من عمر الخامسة. ثم تعلّم على يد كبار الموسيقيين حتى تخرّج من معهد الموسيقى الملكى فى بروكسيل. أسّس ريو أوركسترا «يوهان شتراوس» عام 1987، وقدّم الكونشرتو الأول بعدها بعام، بعدد 12 موسيقيًّا فقط. فى عام 2008 اتسع الأوركسترا ليضمَّ 43 عضوًا ثابتًا، وبدأ يؤدى عروضه باستضافة موسيقيين ومغنين ذائعى الصيت على أكبر مسارح ودور الأوپرا فى العالم. واشتهر الأوركسترا بتقديم الأعمال الكلاسيكية الكبرى على نحو غير تقليدى مع شيء من الرعونة فى الأداء الموسيقى، إضافة إلى «كسر الحائط الرابع»، بتعبير بريخت، عن طريق التفاعل مع الجمهور ومداعبتهم بالنكات والقفشات والحيل الكوميدية أحيانًا. يضم الأوركسترا الآن ما بين ثمانين إلى مائة وخمسين عازفًا وعازفةً. تلك العازفات اشتهرن بارتداء فساتين ڤيكتورية فاتنة تنجح فى نقلنا إلى عالم الكلاسيكيات التى نُنصتُ إليها فى شغف؛ لأن تلك الموسيقى لا تخاطب الأذن والعقل، بقدر ما تتسلل مباشرةً إلى الروح؛ فتعيد ترتيب أوتارها المتنافرة لتضبطها و«تدوزنها» على نغمة الجمال النقىّ؛ فيصفو الإنسان ويشفُّ ويكاد يحلّق فى علياء السماوات.
أكتبُ عنه اليوم ليس لأننى من المفتونين بالڤالس، وأضعه دُرّةً فوق تاج الموسيقى، التى أعتبرها بدورها دُرّة فوق تاج الفنون الستة، كما صنّفها الإغريقُ، أو السبعة إذا ما أضفنا السينما. ولا لأننى لا يمرُّ يوم دون أن أكافئ نفسى بقطعة ڤالس لتشايكوڤسكى أو شتراوس أو شوبان. ولا حتى لأننى أدركتُ عبقرية عبد الوهاب حينما سخّر الڤالس الغربى فى نغم شرقيّ عميق. بل أكتبُ عنه اليومَ لأننى، فيما أتأمل حال الشتات التى وصلنا إليها اليوم، تذكّرتُ تلك الخطبة القصيرة التى استمعتُ إليها قبل أعوام، فترجمتُها للعربية، بتصرّف، لكى نتأمل عمق فلسفتها.
هل بوسعنا أن نستلهم تلك الفلسفة الذكية العميقة فى رحلة بنائنا مصر؟ هل من سبيل لأن نعتبر أنفسنا، نحن المصريين، أعضاءَ فى أوركسترا ضخم قوامه الشعب المصرى بأسره بكافة طوائفه، يقوده مايسترو وطنىٌّ عظيم اسمه الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى ينهض بمصرَ فى خطًى واسعة وعلى نحو علمى مدروس أدهش العالمَ بأسره؟ هل من العسير أن ننتظم معًا كمصريين، على اختلاف عقائدنا وانتمائاتنا الفكرية، فى كونشرتو متناغم واحد يعزف معزوفة (صالح مصر) دون نشاز ولا عِوَج ولا إهمال ولا فساد؟ هل من العسير أن نبنى مصرَ معًا دون تخوين أو تكفير أو تنمّر أو تسفيه جهد أو غلاظة قلب؟ أليس بوسع الشعب الذى بنى الهرم وشقّ القناة وشيّد السدَّ وأشعل ثورة يونيو وطرد الإخوان الخونة، أن يعزف هذا الكونشرتو الجميل؟ تُرى ماذا نسميه؟ كسّارة البندق؟ الدانوب الأزرق؟ كليوباترا؟ لا، دعونا نطلق عليه: «فالس الزهور فى حديقة مصر». مصرُ العظيمةُ تستحق. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يعزفُ معزوفة الوطن».