بقلم : فاطمة ناعوت
مع بداية هذا العام ٢٠٢١، سقطتْ ورقةٌ خضراءُ هائلةٌ من شجرة عظماء هذا الوطن العظيم. فقدت مصرُ عزيزًا من شرفائها الذين يضِنُّ بهم الزمانُ؛ فلا يتكررون إلا بعد حقبٍ وحقب. فى نهاية لقائنا الأول مع الرئيس «عبد الفتاح السيسى» عام ٢٠١٤ ضمن وفد المفكرين والأدباء، أوصى الرئيسُ بضرورة عودة الفنّ المصرى إلى مساره الطبيعى بعد عام الإخوان الأسود؛ لأن الدراما والسينما المصرية هى المؤثر الأساسى على وعى العالم العربى بأكمله. ثُمّ شدَّ الرئيسُ على يدى «وحيد حامد» ونظر فى عينيه قائلًا: (أراهنُ عليك لتقدّم للناس فنًّا عظيمًا يربطهم بوطنهم ويرتقى بوعيهم الوطنى والتنويرى). وكان الرئيسُ حكيمًا فى تحميل الأمانة. فمَن مثل «وحيد حامد» قادرٌ على الإنصات إلى تاريخ المجتمع لاستقراء مستقبله، ثم تضفير التاريخ بالحاضر بالمستقبل فى وشيجة فكرية درامية تنويرية فريدة، تجلّت فى أعمال خالدة أثرت الشاشة العربية منذ ستينيات القرن الماضى وحتى اليوم؟!.
وكان مدهشًا للجميع ذلك الدَّوىُّ المجتمعىُّ والشعبىُّ الهادر الذى خلّفه رحيلُ «الهرم الذهبى وحيد حامد». ففى عالم السينما والدراما والمسرح، عادةً ما يتوارى المؤلفُ عن أضواء النجومية ليحتلَّها الممثلون والممثلات. عمومُ الناس قلّما يعرفون اسمَ كاتب ذلك الفيلم أو تلك الدراما، ويُنسبُ العملُ فى معظم الأحيان إلى نجوم العمل. فكيف عمّت الأحزانُ جنبات مصر والعالم العربى لرحيل هذا الخالد العظيم؟ وتزول الدهشةُ حين نتأملُ كيف التحمَ الكاتبُ الكبير بنبض الشارع المصرى وأنصتَ إلى أوجاع الوطن وانحاز إلى الفقراء والمُهمّشين والمستضعفين. وحين سُئل فى لقاء تليفزيونى: «بمَن يحتمى وحيد حامد ليكتبَ بتلك الجسارة محطّمًا حصونَ الفساد السياسى والفاشية الدينية؟»، أجاب بكل عفوية وبساطة: «أحتمى بالناس. ليس أكثر أمنًا للكاتب من الارتماء فى حضن البسطاء». وكان صادقًا فى فلسفته تلك، لهذا بكاه الناسُ بكل طبقات المجتمع من البسطاء والمثقفين والفنانين.
ومثلما انحاز الرجلُ للبسطاء، كان صخرةَ ذودٍ وسند للمبدعين والتنويريين. وعلّ من أدقّ ما قيل فى وصف هذا الرجل كلمة الموسيقية د. إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة: «كان خيرَ سند للمبدعين والمثقفين والفنانين، وصاحبَ مواقفَ تُكتب بحروف من نور فى سجلات تاريخ الوطن، فهو الأستاذ والأب والمعلم».
ولا شكَّ عندى فى أن لكلّ تنويرى مُستهدفٍ من قوى الظلام موقفًا أو أكثر سانده فيه «وحيد حامد» بصوته أو بقلمه. فأنا مثلًا لا أنسى كلمتَه الخالدةَ عنى حين حُكِم علىّ بالسجن ثلاث سنوات فى قضية رأى، إذ قال نصًّا: (فقدتُ شهيتى الفكرية بعد خبر الحكم على فاطمة ناعوت بالسجن، وشعرتُ بحالة من البلادة وعدم التصديق). حساباتُ هذا الرجل العظيم لم تكن «المكسب والخسارة»، بل كان رهانه الأوحد صالحَ هذا الوطن وتنوير شعبه، مهما كان الثمن، شأنه شأن فرسان التنوير الذين يحملون أعناقهم على أكفّهم ويمضون فى ركب التنوير غير مبالين بالأثمان الباهظة التى يدفعونها لقاء تنوير مجتمع يدثّره الظلامُ والظلاميون بنصال السيوف والتهديد والوعيد وهدر الدم. لم يَخف «وحيد حامد» من خوض المعارك الشائكة مادامت فى ساحة شرف هذا الوطن انتصارًا لمدنيته واستنارته. على مدار عقود، حاربَه التكفيريون والفاسدون والإخوان والإرهابيون ورموه بكل ما استطاعوا من سهام الخسّة والنطاعة والتشويه. لكنّه لم يأبه ولم يستكن. حارب فسادَهم وظلامَهم وجهالتهم بقلمه النحيل المسنون، فاضحًا أفكارَهم، كاشفًا أمراضهم وفسادهم فى أفلامها ومسلسلاته ومقالاته ولقاءاته. وليس أشرسَ من غزو قلعتى: الفساد والتطرف. فكلتاهما مدجّجةٌ بالنبال والفخاخ المميتة. لكنه غزا قلاعَهم بجسارة فى فيلم «طيور الظلام» ومسلسل «الجماعة»، وغيرهما عشرات الأفلام والأعمال الدرامية الخالدة.
فى مقالِه الجميل: «الذين يخافون الله ويحبون الوطن»، قال «وحيد حامد»: «علينا أن نتحدث عن شرفاء هذا الوطن بإسهاب وحرارة ومصداقية. نعطيهم حقَّهم الطبيعىّ ولا نكتفى بالقول الموجز بأن الشريف يكفيه الشرف، والقاعدة أن يكون الإنسانُ شريفًا، والاستثناء أن يكون غير ذلك. فمن حق الذين يقدمون العطاء الطيب أن يكونوا تحت الضوء. فهم القدوةُ الحسنة والحقيقية؛ والواجب أن نتحلى بأخلاقهم ونتأمل منهجهم فى الحياة، ونفكر كيف كانت القناعة كنزهم الذى لا يغنى، وكيف أن الإيمان هو دافعهم إلى الإخلاص فى العمل وطهارة اليد وطهارة العقل والروح». وسوف أقتدى بفلسفته الجميلة وأشيدُ بأحد أغنى وأثرى وأجلّ شرفاء هذا الوطن، الذين خافوا الله وأحبوا الوطن، وأقول للراحل العظيم «وحيد حامد»: «نم ملء جفونك عن شواردِها، فقد أوفيتَ رسالتك كاملةً غير منقوصة، وساهمت بقوة فى استنارة هذا الوطن وارتقاء وعيه».
«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يُنيرُ الوطن».