بقلم : فاطمة ناعوت
كأننا نغوصُ فى عُمق كتاب الزمان ونعود إلى خبيئة أسرار أجدادنا العِظام، حين كانوا يجعلون من صفحة النهر العظيم خشبةَ مسرح أسطورى تُعرض عليه الحكايا والملاحم والأوبرات والجاليرات والمواكب الملكية وطقوس العبادات وفنون الجسد البشرى المُلغِز.
أشكرُ الحظَّ الطيب الذى جعلنى أشهدُ تلك اللحظة الخالدة التى تقفُ فيها سيدةٌ مصريةٌ جميلة على متن باخرة تقطع عباب النيل لتُسلّم مِشعل التنوير والثقافة لدولة أخرى، حتى تُكملَ مسيرةَ النور. الدكتورة إيناس عبدالدايم، الموسيقارة الجميلة ووزيرة الثقافة المصرية، وصانعة مجد «دولة الأوبرا»، وأيقونة ثورة ٣٠ يونيو، تقفُ على متن الباخرة المصرية فوق صفحة النيل، فى قلبها نغمٌ وفى روحها عشقٌ للوطن، وفى يدها مِشعل «الأقصر» التى قضت اثنى عشر شهرًا عاصمةً للثقافة العربية ٢٠١٧، لكى تُسلِّمَه لعصمة الدكتور محمد الأعرج، وزير الثقافة المغربى، لِيُتوِّجَ به مدينة «وجدة» المغربية، العاصمة القادمة للثقافة.
كانت الباخرةُ التى يعلو شراعَها العلمُ المصرىّ، تجاورُ الباخرةَ التى يعلو شراعَها العلمُ المغربى، دُرّتين من البهاء وسط بواخر النور التى حملت أشرعتُها أعلامَ إحدى وعشرين دولة عربية تشهد هذا العرس الثقافىّ المبهر، حيث ينتقلُ المشعلُ من يد إلى يد، ومن عاصمة إلى عاصمة، على نغمات أغنية «الأقصر بلدنا» الخالدة، بإخراج فنىّ مدهش من إبداع خالد جلال.
ضجَّ قلبى بالفرح وأنا أشهدُ تلك اللحظة المهيبة، ألوِّحُ بعلم مصر من الباخرة المصرية، لضيوف المهرجان من الدول العربية فى أزيائهم الوطنية على متون البواخر الأخرى. تذكّرتُ شوكةَ الأسى التى وخزت قلبى، قبل أربع سنوات، على مدينة الأقصر وهى حزينة قفرٌ لا يزورها سائحٌ، ولا يهفو إلى آثارها عاشقُ تاريخ أو باحث فى الحضارة. قبل أربعة أعوام طُفتُ بدروب «الأقصر» ومعابدها وبازاراتها وجرحنى مشهدُ أبوابِ محال مغلقة، وبواخرَ راكدةٍ ومعابدَ شاغرةٍ، وتماثيلَ صامتةٍ، حين كان الزحامُ لا أحد! تلك المدينةُ الآسرةُ هى التى دفعتِ الشطرَ الأكبرَ من فاتورة الصخب السياسى الذى خاضته مصرُ منذ سبعة أعوام. المدينةُ العامرة بأكثر وأعرق وأجمل آثار هذا الكوكب، كانت مستهدفةً لقتل السياحة بها، ونجحت مساعى أعداء مصر، إلى حين. لكنها اليومَ قد عبرت لحظة الجدب الحزينة، وعاد إليها بريقُها واحتشد السائحون فى معابدها ومتاحفها ودروبها وعلى ضفاف نيلها الثرى. الأقصر تشهد ازدهارًا سياحيًّا وثقافيًّا مدهشًا فى عهد د. محمد بدر، المحافظ المحترم الذى يعرف قيمة المدينة الاستثنائية التى يرعاها، مُكملا مسيرة د. سمير فرج المشهودة. وشهدتُ بنفسى كيف يدير د. بدر ذلك الكنزَ التاريخىّ الهائل، مدينة الأقصر، بوعى وحسم وثقافة، حتى يجعلها تعود إلى مجدها الذى يليق بها، وتليق به. طيبة العريقة، الأقصر الساحرة، تلك المدينة التى نُصِّبت عاصمةً للثقافة العربية على مدار العام الماضى، ولو أنصفوا لجعلوها عاصمة العالم على مدار الزمان. أقدم عواصم التاريخ، طيبة القديمة المتحف المفتوح على فضاءات الدنيا والتاريخ، مهد الحواضر وصانعة الضمير الإنسانى فى فجر الأزمان.
شهد معبدُ الكرنك العريقُ تلك اللحظة البهية الأحد ١٨ مارس، فضحكت قلوبُ أجدادنا، السلف الصالح، فرحًا وهم يروننا، نحن أحفادَهم المصريين، نشقُّ طريقنا نحو النور من جديد. أنصتَ الملوكُ وأصاختِ الملكاتُ السمعَ إلى المايسترا المصرية، وزيرة الثقافة، وهى تقول إن مصر ستظلُّ أبد الدهر مهد الحضارة وأرض النور ومشعل التنوير. ثم أطرقوا فى خفر التواضع الملكىّ، وهم يسمعونها تُشيدُ بمجد أجدادها قائلة إن آثار أجدادنا علّمت الإنسانيةَ القيمَ والأخلاق وأبهرت العالم بالعلوم والفنون والعمارة والثقافة والتنوير. وصفّق لها الأجدادُ حين قالت الوزيرةُ المثقفةُ إن الهُوية المصرية الغنية وهبت المصريين الريادةَ فى شتى مجالات الحياة.
لا شىء يوحّدُ الشعوبَ إلا الثقافةُ والفنون، وإن فرّقتنا الحروبُ والمصالحُ. وها هو مشعل الثقافة ينتقل من يد موسيقارة مصرية، إلى يد رجل قضاء مغربىّ، ليوحّد كلمةَ الدول العربية على خيار واحد، هو خيار التنوير والمدنية والتحضّر.
نبارك للمملكة المغربية الشقيقة تسلمها مشعل ٢٠١٨ الذى تحمله مدينة «وجدة» حِملا ثقيلا وثريًّا، يُرصّعُ جبينها باللؤلؤ ويملأ قلبها بالنور.
نقلاً عن المصري اليوم