بقلم : فاطمة ناعوت
فى ٨ فبراير عام ٢٠١٠، كتبتُ فى نافذتى هنا بجريدة «المصرى اليوم» مقالًا عنوانه: «شمعةٌ مصريةٌ ضد القبح»، لأدعو شبابَ مصرَ الشريف للمشاركة فى المبادرة التى أطلقناها للاحتفال بعيد الحبّ ١٤ فبراير على نحو أكثر فاعلية وجمالًا، من أجل تكريم شهداء المسيحيين فى «مذبحة نجع حمادى»، وبالمواكبة مع جلسة محاكمة القتَلة الإرهابيين آنذاك. فى تمام السابعة مساءً، ولمدة ساعة، وقفنا على دَرَج نقابة الصحفيين، حاملين الشموعَ المُضاءة، شاهرين عَلَمَ مصر العظيم، ثم أطلقنا للفضاء حمامات السلام، على وقع رباعيات صلاح جاهين وصوت محمد منير. كانت تلك الشمعةُ المصريةُ هديتنا فى عيد الحب لمصرنا الغالية، ولقلب كل مصرى يعرف أنه خُلق ليكون إنسانًا متحضرًا. وجاء شبابُ مصر النبيل وشاركنا تلك الوقفة التاريخية الجميلة.
فى مقالى القديم طرحتُ مثالًا من الطبيعة، يشرحُ طبيعةَ الشعب المصرى الطيب، وكيف لوّثتْ ثوبَه بعضُ بقعٍ سوداءَ من الطائفية، علينا غسلها.
«نُسْغُ الشجرةِ» هو سوائلُ الهرمونات والسُّكّر والمعادن المُذابة فى لِحاء الشجرة، يسرى من جذورها العميقة الضاربة فى عمق الأرض، ليغذّى أوراقها وثمارها، حتى أصغر برعم وليد فى الأعلى، فيمنحه رواءَه واخضراره. تلك السوائلُ التى تسرى فى شريان الشجرة هى عصيرها الطيب: Juice. وبمرور الزمن، تتكون بالتدريج طبقاتٌ قشرية حول جذع الشجرة على هيئة دوائرَ، تشيرُ إلى السنوات التى عاشتها الشجرةُ منذ ميلادها الأول. وتأتى الكائناتُ الطفيلية الخبيثة والقوارضُ لتحفرَ لنفسها مأوى فى خشب الشجرة القِشرىّ، لكنها لا تستطيعُ الوصولَ إلى النُّسغ، إلا إذا ماتتِ الشجرةُ وتحلّلتْ وبادت. وفى عالم المعادن والفلزّات، نعلمُ أن صَهْرَ المعدن يُنتِج شوائبَ ونفاياتٍ تطفو على السطح، نُسمّيها: «الخَبَث» Slag. يتمُّ كشطُها من سطح المعدن المنصهر، ليصفو لنا وجهُ المعدن برّاقًا مصقولًا. كذلك الحال فى المجتمعات العريقة مثل المجتمع المصرى المتحضر. نمَت حول جذعه النقىّ خبثٌ وطفيلياتٌ تحاول اختراق نُسغه لتدمير شجرة مصر، ولكن هيهات!
لم أشكّ يومًا فى رُقىّ الشعب المصرى ونقاء سريرته! وهنا أتكلم عن نُسغ الشعب ومعدنه، وليس عن قشوره السطحية التى طفت على السطح، مثلما يطفو الخَبَثُ الردىء فوق سطح المعدن. فى تلك الآونة من عام ٢٠١٠، احتشدت جريدة «المصرى اليوم»، وكتّابُها، لإطلاق حملة توعية للناس للتأكيد على طبيعة هذا الشعب الطيب. كان هدف تلك الحملة ضخّ الطاقة فى ذلك النُّسغ العميق، من أجل لَفْظ الشوائب الغريبة، التى تحاول نخْرَ القلب الطيب.
دعونا نتأمل فلسفةَ «عيد الحبّ»، سواءً المصرى الذى مرّ قبل عشرة أيام فى ٤ نوفمبر، أو العالمى الذى يحلُّ فى ١٤ فبراير القادم. دعونا نتأمل فلسفة «الحبّ» بمعناه الأشمل الصحيح. الحبُّ كما أرشدنا إليه أفلاطون فى مثلثه المعروف: الحقُّ- الخيرُ- الجمال. وكما أرشدتنا إليه جميعُ الديانات السماوية والوضعية على حدٍّ سواء. ولذلك حينما سُئل الرسول، عليه الصلاة والسلام: «أنَهْلَكُ وفينا الصالحون؟» أجابَ: «نعم، إذا كَثُر الخَبَث!»، والخَبثُ لم يكثر فى شعب مصر بعدُ، والحمد لله. لايزالُ النسغُ طيبًا رائقًا، وسيظلُّ بإذن الله، فالدول ذات الحضارة تعرفُ كيف لا تسمح للزمان بأن ينال منها، وإن أصابها منه بعضُ الوهن، تعرف كيف تحوّل تجاعيدَ وجهها فتنةً وصِبًا، وتعيد بناء نسْغها الممشوق. وهل أكثرُ حضارةً وعراقة من مصر؟!
أنقذوا مصرَ الطيبة وحافظوا على النهضة التى يصنعها رئيسنا النبيل عبدالفتاح السيسى. أنقذوا نُسغَ قلوبكم من الخَبَث وليحمل كلٌّ منكم شمعةً ضدَّ البغضاء، ضدَّ الطائفية، ضدَّ التطرف، ضد كراهة مصرَ، ضد العنف والحقد والحسد والتنمّر والفوضى واللا-انتماء والبلطجة والقسوة والفاشية والفساد والإهمال والكسل والتفاهة والحمق والسفاهة والانحطاط والغباء والقمع والتخلّف والركاكة، شمعةً تخاصمُ الخبثَ والخبائث، وتصالحُ الجمال والنور، شمعةً تليقُ بمصر، بوصفها أولَ بلد فى التاريخ صنع دولةً وحضارةً وعِلمًا وفنًّا وخلودًا. يُعلِّمنا كتاب «الخروج إلى النهار»، الشهير بـ«كتاب الموتى»، أن المصرىَّ أدرك مبكرًا جدًّا المعنى الحقيقى للحياة والموت والحبّ والرحمة والتحضر والسمو واحترام حقوق الآخر، فكونوا أحفادَهم.
دعونا نصنع وقفة الشموع المثقفة مع أنفسنا، فالشمعةُ مثقفةٌ. فى صمتها تقول ما لا تقوله أجملُ قصائد الشعر وأبلغُها. تعرفُ الشمعةُ الضئيلةُ الصامتةُ كيف تمزّقُ سُتُر الظلام الكثيف من حولها. ويعرفُ المصرىّ كيف أن حُبَّ الله يبدأُ بحبِّ مخلوقاته، وأن حبَّ مصرَ يبدأ من حبِّ أبنائها. أما غلاظُ القلوب فليسوا إلا خَبثًا لن يلبث أن يتبددَ، ليصفو لنا وجهُ مصرَ، رائقًا نيِّرًا، كما قَدَّرتْ لها السماءُ أن تكون. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يوقد شمعة الوطن».