بقلم : فاطمة ناعوت
حين ألتقيه فى خيالى، كعادتى كلما اشتقتُ إليه وضربتنى الحيرةُ فى أمر ما، سوف أسألُه السؤالَ الذى أعيدُه عليه كلما التقيته: (كيف تتلقّى سياطَ سجّانك على ظهرك فى النهار، ثم تجالسُه فى المساء، لتعلّمه الأبجديةَ، وتمحو أميته؟! كيف تعفو عن جلادك ثم تُحسن إليه؟! «والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس والله يحبُّ المحسنين»، هل أنت نبىّ؟!)، وسوف يبتسم كعادته ويجيبُ الإجابةَ المدهشة ذاتَها: (الأمرُ بسيط! كلٌّ منّا كان يؤدى عمَله. وظيفةُ السجّان تعذيبى لأن الظلاميين أفهموه أننى عدوُّ الله! ووظيفتى تعليمه لكى أقشِّرَ عنه حُجُبَ الجهل والتضليل، فيدخله النورُ، ويدرك الحقيقة)، وصدق الأستاذُ العظيم. لأن تجّارَ الدين وظيفتهم تضليل البسطاء ليصنعوا منهم جلادين يضربون بهم رؤوسَ التنويريين، فالرأسُ المستنير هو العدوُّ الأول للأدعياء مرتزقة الأديان. التنويرىُّ يحملُ مِشعلَ التنوير لينيرَ الدربَ لشعوب، يُراد لها أن ترعى فى الظلام حتى تنهارَ الأوطانُ وتتقوّضَ الحضارات.
يوم ١٨ فبراير سيكون عيد ميلاد المفكر المصرىّ الكبير «محمود أمين العالِم». سوف يكملُ الأستاذُ عامَه التاسع والتسعين فى السماء، فقد وُلِد الأستاذُ فى فبراير ١٩٢٢، ورحل عن عالمنا يوم ١٠ يناير ٢٠٠٩. كلّ سنة وهو طيب فى فردوس الله العظيم. كلُّ عام وابتسامتُه الشهيرة مشرقةٌ كما عوّدنا، وكما خلدتها الصورُ، لكى نتعلمَ من تلك الابتسامة معنى التفاؤلَ وقيمة الثقة فى غدٍ أجمل. وليته معنا اليومَ حتى يشهدَ بعينيه كيف بدأ ذلك الغدُ المشرق فى التحقق.
ربما لم ألتقِ إنسانًا أَحَبَّ مصرَ، وآمن بقوتها وقدرتها على عبور المحن، مثله. لو كان بيننا اليومَ لسمعتُه يقول لى: (ألمْ أقل لكِ إن مصرَ سوف تنهضُ وتعلو وتنتصرُ للفقراء، ويتحقق حلمُنا العصىُّ الذى كافحنا من أجله عقودًا وعقودًا؟ ألم أقل لكِ إن السياطَ التى مزقتْ جسدى وأحنتْ ظهرى وظهور شرفاء مصر فى معتقلات ٥٩ لن تذهب سُدًى، بل سوف تتشابكُ وتتجادلُ وتصنعُ نسيجًا أنيقًا قويًا يرسم لوحة مجتمع «الكفاية والعدل»، الذى أفنينا أعمارنا قربانًا له؟ ألا تعلمين أن القصائدَ التى حفرتُها بأظافرى على جدران «سجن القلعة» لا تزال شاخصةً لم تُغمض عيونَها لأكثر من ستين عامًا، حتى تشهد بعيون الشِّعر لحظةَ التحوّل المفصلىّ فى مصر؟ غدًا تطيرُ قصائدُك أيضًا من نوافذ الظلام حتى يشرقَ التنوير الكامل الذى تحلمين به).
(يا مسجون كَسَّرِ الصخرة! للصخرةِ سبعةُ أبواب، شوف فين الباب واضربْ!)، هكذا كان يزعقُ السَّجّانُ الخشنُ فى وجه المفكر المصرىّ الكبير «محمود أمين العالِم»، فى معتقلات ١٩٥٩، وهو يلوّحُ بالسَّوط فى يده، والشررُ يتطايرُ من عينيه المتوعدتين. هو السَّوطُ الذى نالَ من ظهر السجين «العالِم» العالم. هذا أثناء النهار، أما فى المساء، فكان السجين الكريم يدعو إلى زنزانته السجّانَ الخشنَ لكى يعلّمَه القراءةَ والكتابة! تصوّروا! أندهشُ وأهتفُ فى عجبٍ: (يا أستاذ محمود، يجلدُك السجانُ بالنهار، وتمحو أميّتَه بالليل!)، فيقول الأستاذُ، وابتسامته الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ وجهَه: (طبعًا يا فاطمة، كلٌّ منّا يؤدى واجبَه. هو يظنُّ أن جَلْدَه لى واجبٌ دينى ووطنى يؤديه بإتقان. وأما واجبى أنا، وحقُّه علىَّ، فكان تعليمَه وتثقيفَه هو وغيره ممن جعلهم الظلاميون أُميّين غلاظًا لكى يبطشوا بهم أعداءهم من مثقفين يكافحون من أجل تحقيق الخير والعدالة لمثله من الأميين والفقراء). أسألُه: (يعنى لم تكره سجّانَك أبدًا يا أستاذ محمود؟!)، فيجيبُ الأستاذُ ضاحكًا: (مطلقًا! كيف أكرهه وهو ضحيةُ التغييب والجهل؟ بالعكس كنتُ أحبّه وأشفقُ عليه. وأصغى إليه فى النهار إصغاءَ التلميذِ لأستاذه وهو ينظرُ إلى الصخرة، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها لكى أهبطَ بمِعولى عليها فتتحطم. ذاك كان عملى فى عقوبة الأشغال الشاقة. السجانُ يعلمنى بالنهار كيف أفتتُ الصخور. وأنا أعلمه بالليل كيف يفتتُ أسوارَ العتمة من حوله)، ثم يقضى الأستاذُ الجميل بقية ليله الطويل بالزنزانة فى كتابة القصائدِ على الحائط. ولم تزل تلك القصائدُ موجودةً فى «سجن القلعة»، ترفضُ الحيطانُ أن تمحوها!
يا أستاذى الجميل «محمود أمين العالِم»، فى عيد ميلادك التاسع والتسعين، نعتذرُ لك عن تلك السياط التى تحملتَها بصبر القديسين من أجل وطنك وأبناء وطنك حتى يستنيروا. وتعتذرُ لك مصرُ عن سياط قاسيات عبرت معك السنين ورافقت آثارُها ظهرَك حتى القبر. سلامُ الله عليك، وقبلةٌ على يدك! وأناشدُ الرئيسَ المستنير عبدالفتاح السيسى أن يتمَّ تكريم هذا الراحل النبيل، وأن يُمنح اسمُه الخالدُ «قلادة النيل»، لقاء ما قدّم لوطنه من فكر وتنوير وشقاء.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يضىءُ الوطن».