بقلم : فاطمة ناعوت
هذا شهرُ مارس، أجملُ الشهور وأشرقُها. شهرُ الطبيعة والحُسن والشدو. فيه تُشرقُ الزهور وتصدحُ الطيور وتحنو الشمسُ فتمنحنا النورَ والدفء وبهجات الطبيعة بعد قسوة الشتاء وعتمته. لكنه يحملُ مع ذلك بعض الغيوم. فى بداياته يفكِّرُ الأولادُ والبناتُ فيما سيجلبون لأمهاتهم فى عيد الأم من هدايا ويحبكون الخطط والمفاجآت ليرسموا فوق شفتيها الفرح. أما الذين رحلت أمهاتُهم عنهم وتركتهم عرايا عن الحب، فنصيبُهم الوجعُ واجترار الذكريات. وأنا أحدُ هؤلاء. لهذا أواسى نفسى ورفاقى الفاقدين أمهاتهم بهذه الحكاية.
يحكى الفولكلور الصينىّ عن امرأة تعيش هانئةً مع وحيدِها الذى هو قُرّةُ عين لها ولوحدتِها التى حلّت ببيتها بعدما فقدت الرجلَ والأهلَ والسند. وفى يومٍ حزين، جاء الموتُ واختطفَ ابنَها دون مقدّمات. رفضتِ الأمُّ تصديقَ الفاجعة، ولم تُسلِّم بأن الموتَ فعلٌ جازمٌ غيرُ قابل للاستئناف أو النقض. ذهبت إلى حكيم البلدة وبكت بين يديه لكى يدلَّها على وصفة سحرية تُعيد ابنَها إلى الحياة. وتعهدت بأن تصنعها مهما بلغت صعوبتُها.
أشفق الحكيمُ على المرأة الثكلى، فأخذ شهيقًا عميقًا، ثم شرد بذهنه قائلا: «حسنًا يا ابنتى. أحضرى لى حبّةَ خردل واحدة. بشرط أن تأتى بها من بيتٍ لم يعرف الحَزَنَ مطلقًا». انتعش قلبُ المرأة برذاذ الأمل والرجاء الوشيك فى استعادة نجلها الراحل. فبدأت من فورها تجولُ على بيوت القرية بيتًا فى إثر بيت، وتطرقُ بابًا من بعد باب، سائلةً عن طريدتها التى طلبها الحكيم الطيب: «حبّة خردل واحدة، من بيت لم يعرف الحزن».
طرقت أحدَ الأبواب. ففتحت لها امرأةٌ شابّة، سألتها السيدةُ: «هل عرف هذا البيتُ حزنا من قبل؟» ابتسمت الشابّةُ فى مرارة، وأجابت: «وهل عرف بيتى إلا الحزن؟!»، ثم راحت تحكى للمرأة الثكلى أن زوجها مات منذ عام، تاركًا لها أربعة من الصغار. لا تعرف كيف تُطعمهم إلا ببيع أثاث الدار الذى لم يتبقَ منه إلا القليل.
فاضَ الدمعُ من عينى الثكلى، وراحت تواسى صاحبتَها الأرمل أمّ اليتامى. ومع نهاية الزيارة، صارتا صديقتين، ولم تفترقا إلا وقد تواعدتا على تكرار اللقاء. قالت الشابةُ لرفيقتها الحزينة: «سأنتظركِ. فقد مرّ زمنٌ لم أفتح فيه بابَ بيتى لزائر ولا قلبى لإنسان أبثّه شكواى». قُبيل الغروب، طرقتِ المرأة الثكلى بابًا جديدًا، ففتحت لها سيدةٌ على وجهها سيماءُ التعب.
سألتها إن كان هذا البيتُ لم يعرف الحَزَن. ملأها الإحباطُ حين علمت من سيدة الدار أن زوجها طريحُ الفراش وليس فى البيت مالٌ لعلاجه أو طعامٌ لصغارها. ذهبت الثكلى إلى السوق واشترت بكل ما معها من مال دواءً للمريض وطعامًا وبقولا للصغار، ثم عادت إلى دار رفيقتها، وساعدتها فى طهو وجبة ساخنة لإطعام الصغار. ثم ودّعتها على وعدٍ بزيارتها فى مساء اليوم التالى. حينما أشرق الصبحُ، جالت المرأةُ بين أرجاء البلدة، لم تترك بابًا إلا وطرقته، ولا بيتًا من بيوت الجوار إلا ودخلته لتسأل أهلَه إن كان بيتُهم لم يعرف الحزن، طمعًا فى طرح السؤال الآخر الذى لم يأت أبدًا: «حبة خردل واحدة»، فقط إن كانت الدارُ نقيّة من الحَزَن، بريئة من الفجيعة والدموع. من باب إلى باب أخبرتها الدورُ والأبوابُ أن رجاءها صعبٌ عسير عصىُّ يسكنُ جوفَ المستحيل.
خرجت من كل بيتٍ صفرَ اليدين مما جاءت من أجله، وملأت جَرّة ذاكرتها بقصص كثيرة وحواديتَ ملؤها الحزن والشقاء والموت والقنوط، لكنها حصدت مع القنوط عددًا هائلا من الأصدقاء الذين جعلت من مساعدتهم وحلّ مشاكلهم وتخفيف أحزانهم مشروعَ حياتها القادم.
ومرّت الأيامُ والسيدة لا توقفُ عطاءها لحزانى الجوار، حتى صارت صديقةً لكل بيت من بيوت البلدة. ويومًا بعد يوم، بدأت تنسى طريدتها التى ستُرجع لها ابنَها الراحل. نسيت حبّةَ الخردل من بيت لا يعرف الحزن، لأنها أدركت أن حزنًا يسكن كل قلب. وحين ذابت فى أحزان الناس بدأ حزنُها الشخصى يخفتُ مع الوقت، وأدركت حكمة الحكيم، وعبقرية وصفته السحرية. «الخروج من الـ (أنا)، نحو الـ (هو) والـ (نحن) والآخر». تلك هى حبّةُ الخردل التى تجعل أحزاننا تذوب مع أحزان الآخرين.
أتذكرُ تلك القصة كلّما طرقتُ بابًا أعرفُ أن وراءه أمًّا ثكلى فقدت شهيدًا فى حربنا الصعبة مع الإرهاب. وأتذكّرها كلما اشتقتُ لأمى التى تركتنى ومضت إلى حيثُ تذهبُ الأمهاتُ ولا يعدن. اللهم نقّ واقعنا من أعداء الحياة خصوم الفرح وكلاء الموت على الأرض، وامنحنَا السلام. «الدينُ لله والوطنُ لمَن يصير حبّة خردل لحزانى الوطن».