بقلم : فاطمة ناعوت
ليس أشهى من حبّة تمرٍ قدّمتها لى يدٌ قبطية لأكسرَ بها صيامى مع أذان المغرب فى أحد أيام رمضان 2013، يوم نزلنا فى 26 يوليو لنطالبَ جيشَنا العظيمَ بحماية هُويتنا والضرب على يد الغول الإخوانى البغيض، الذى انتوى إحراق الوطن بعدما أسقطناه عن عرش مصر فى ثورة 30 يونيو 2013. مازال مذاقُها فى فمى. قدمت لى التمرةَ يدُ صبية لمحتُ فى رُسغِها صليبًا أزرقَ، بلون النيل، ولون عين حورس، فتأكدّتُ أن مصرَ ستظلُّ عصيةً على الشتات، غنيةً بشعبها الذى لا يعرفُ إلا الحبَّ ولا يسمحُ بالفُرقة والشقاق، مهما حاول المُبغضون. يومها استوثقتُ أن شعبنا الطيبَ الذكىَّ يعرفُ كيف يحفظ عهدَ الله، لنظلَّ فى رباطٍ إلى يوم الدين.
وليس أشهى من أقراص الكعك تخبزها الجاراتُ المصريات، مسلمات ومسيحيات، فى ليالى رمضان استعدادًا لعيد الفطر، وفى عشيات قدّاسات عيد الميلاد وعيد القيامة، فإذا ما نضج الكعك على ضحكاتهن، يبدأن فى رشّ السُّكر على وجهه المتوهّج بنار الفرن ودفء المحبة فى قلوبهن، فإذا ما أشرقتْ شموسُ الأعياد، طافتِ الصحونُ بين أبواب الدور مُحمّلةً بالكعك والبيتيفور والبسكويت. أقراصُ الكعك لا تعرفُ التمييز بين هلال وصليب وإنجيل ومصحف، فالكلُّ يذوبُ فى فيوض الودّ والمحبة، مثلما يذوب سكّر الكعك على الألسنِ الطيبة، التى لا تعرفُ إلا كلماتِ السلام.
وليس أشهى من حبّات القلقاس البيضاء، تسبحُ فى نهرِ الأخضر الزاهى فى صحنٍ تقدّمه لى يدٌ مصريةٌ قبطية مسيحية، فى عيد الغطاس المجيد من كلّ عام. قبل كلّ غطاس تصلنى عشراتُ الدعوات الطيبات من أسر مصرية كريمة، تدعونى لتناول القلقاس والقصب على مائدتها بين أفراد العائلة، ليس (كأننى) واحدة منهم، بل (لأننى) بالفعل واحدةٌ منهم، فكلُّ بيوت المصريين الطيبين بيتى، وجميعُ عائلات المصريين الشرفاء أقربائى.
وكان قلقاس هذا العام 2021 فى بيت عائلة الفنانة الكوميدية الجميلة «ميرنا ذكرى»، آسرة القلوب، التى تعرفُ كيف تُحوّل همومَك إلى فرح بموهبتها وخفّة ظلّها، والتى التقطها الفنانُ العظيم «محمد صبحى»، فضمَّها إلى فرقته لتكون نجمة الكوميديا المتوهجة فى مسرحياته: «خيبتنا»، «أنا والنحلة والدبور»، وننتظرُ بشغف أن يُكملوا لنا المسرحية الجديدة قيد التنفيذ: «عائلة اتعمل لها بلوك»، فكلُّ عمل يقدّمه «صبحى» وفريقه ليس إلا جوهرةً أنيقة تُزيّن تاج مصر البهى. مثلما ننتظرُ كذلك أن نشاهد هذه الفنانة الجميلة «ميرنا ذكرى» فى أعمال درامية كثيرة لأنها طاقة فنية هائلة وكوميديانة فريدة. كان يومًا دافئًا قضيتُه مع عائلتها الجميلة، التى تُتقنُ فنَّ «المحبة التى لا تسقطُ أبدًا»، فأصبح بيتُهم «محطَّة إنسانية» فى محيط الحىّ الذى يقطنون فيه، يحلُّ مشاكلَ أصحاب الضائقات ويلجأ إليهم كلُّ مأزوم. شكرًا لهم على يوم جميل فى حياتى، لا يُنسى.
وذكر المؤرخون أن المسلمين من أهل مصر كانوا يشاركون فى الاحتفال بعيد الغطاس مع أشقائهم المسيحيين، بالخروج إلى نهر النيل والإبحار فى المراكب والغناء والسمر، فيقول «تقىّ الدين المقريزى»، المؤرخ الإسلامى الشهير: «على مدار التاريخ المصرى، اعتمد المحتفلون المصريون، مسلمين ومسيحيين، بعيد الغطاس طريقة بديعة فى الاحتفال، عن طريق تزيين صفحة نهر النيل بمئات الشموع والمشاعل المزخرفة، والخروج فى مواكب حاشدة كُبرى قاصدين النهر، وكان الخليفةُ المصرى يُعرب عن سعادته بتوزيع النارنج والليمون والسمك والقصب». ويقول المؤرخ «أبوالحسن المسعودى»، فى كتابه «مروج الذهب»: «ليلة الغطاس فى مصر لها شأن عظيم عند أهلها، لا ينامُ الناسُ فيها. فى ذلك اليوم يذهب إلى نهر النيل مئات الآلاف من المسلمين والمسيحيين، منهم فى الزوارق، ومنهم من الدُّور القريبة من النيل، ومنهم على الشطوط، ظاهرين كل ما يمكن إظهاره من المآكل والمشارب والملابس والذهب والفضة والجواهر وآلات العزف. وهى أحسن ليلة تكون بمصر».
عيد الغطاس هو يومُ تعميد السيد المسيح عليه السلام فى نهر الأردن. والتعميد فى الأدبيات المسيحية هو غسلُ الإنسان من الخطيئة، والتبرؤ الرمزى من معصية الله. ويحمل القلقاسُ هذا الرمز لأنه ثمرةٌ جذرية تنمو مدفونةً تحت الأرض. وتحت قشرتها السميكة تقبعُ طبقةٌ تؤذى حنجرةَ الإنسان إن تناولها دون غمرٍ فى المياه، فيرمزُ تقشيرُ الثمرة ونزع قشرتها إلى: نزع ثوب الخطيئة عن الإنسان، حتى يتطهّر. ثم يرمز غمرُ الثمرة العارية فى الماء إلى غمر الإنسان فى ماء العِماد للاغتسال من الآثام. كلّ عام ونحن مغسولون من الآثام بالمحبة والتوادّ والتسامح.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يزرع الحبَّ فى الوطن».