توقيت القاهرة المحلي 15:24:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أولُ لصٍّ.. أولُ مفتاحٍ.. في التاريخ

  مصر اليوم -

أولُ لصٍّ أولُ مفتاحٍ في التاريخ

بقلم : فاطمة ناعوت

فى البَدء؛ كان إنسانٌ. ثم جاء إنسانٌ وتلصَّصَ على الإنسان، فاخترع الإنسانُ الباب. جاء إنسانٌ وفتح البابَ وسرق شيئًا. فاخترعَ الإنسانُ القِفلَ والمفتاحَ. ثم اخترع الأسوارَ والسياجَ والأصفادَ والخزائن والأرقام السرية وكاميرات المراقبة وغيرها من أدواتٍ ابتكرها الإنسانُ ليحمى نفسَه من لصٍّ زرع زهرة الشرّ الأولى التى لوثت الأرض وجعلتنا نبتكرُ القانونَ والمحاكم والسجون والمشانق.

أصلُ الحياة أن تكون خالية من مِهِن لا محلّ لها فى عالم (كان) يحكمه قانون البراءة. القاضى والسجّان والجلاد و.. و.. و.. وظائفُ ابتدعها الإنسانُ لكى يقتصَّ من إنسانٍ تلصَّص أو سرق أو قتل. مهنٌ ما كنّا سنعرفها لو حافظنا على فطرتنا النقية البريئة.

فى البدء؛ كان عالُمنا بسيطًا بلا أوراق. إن احتاج إنسانٌ بعض المال، دقّ بابَ جاره وسأله، فأعطاه سؤلَه. لكن إنسانًا ما، أنكر أنه أخذ، فابتدع أجدادُنا أشياءَ بغيضةً مثل وصل الأمانة وغيرها من أوراق سخيفة تقول بصوت أجشّ: «احترسْ، ثمة لصٌّ يسرق!».

فى البدء كان السفرُ بالطائرة سهلا مثل القطار. يصعدُ إنسانٌ إلى طائرة، وتلوّح له حبيبتُه من شرفة المطار. يراها وتراه. وتظلُّ عيناها معلقتين بعينيه ويدُها تلوّح مع إيقاع قلبها، حتى تختفى الطائرةُ بين السحاب. هذا كان حتى الأمس القريب. تشهدُ على ذلك أفلامُنا القديمة بالأبيض والأسود فى زمن البراءة قبل اختراع الشرور. شاهدنا «نادية لطفى» و«فاتن حمامة» و«زبيدة ثروت» يُلوّحن لأحبائهن من شرفات مطار القاهرة فى أفلام الستينيات الماضية. كأنه بالأمس فقط! يا خسارة! ذلك المشهدُ الرومانتيكى الرائع أصبح من الفولكلور المهجور. جيلُنا لم يره، ومستحيلٌ أن يراه جيلٌ بعدنا. لماذا؟ لأن إرهابيًّا مُنحطًّا قرّر فى يوم أغبرَ أن يخطفَ طائرةً ويروِّع مسافرين. فكان لا بد أن ترتفعَ أسوارٌ وتتعقّد حواجزُ، وتخترقَ أشعةٌ سينية أجسادَنا وحقائبنا وضمائرَنا، وتمرَّ يدان مُدربتان داخل جيوبنا وبين مفاصلنا بحثًا عن سائل حارق أو نصلٍ أو قنبلة موقوتة. كُتب على المسافر، وإلى الأبد، أن يُعامل كإرهابىّ مُحتمَل: يخلعُ نعليه وساعتَه ومعطفَه ويخضعُ للتفتيش، ويُحرمُ مما استمتع به جدُّه: أن تكون عينا حبيبته، آخرَ ما يرى فى أرض الوطن.

فى البَدء كان الصبايا يخرجن بفساتين قصيرةٍ وكعوبٍ عالية، تتراقصُ جدائلُهنّ مع النسيم، يمشين فى شوارع الوطن واثقاتِ الخُطى كأميراتٍ خرجن من كُتب الحكايا. يذهبن إلى المدارس والجامعات والنوادى ويدخلن السينمات والمسارح وحفلات الطرب الجميل. يتناولن القهوة فى جروبى والكرواسون فى الأمريكين، ويشاهدن فاترينات المحال. ثم يعُدن إلى بيوتهن فى سلام كما يليقُ بطبائع الأمور. لكن سافلاً ذئبًا تحرّش بفتاة، وخدش حياءها بكلمة أو بسلوك، فانسحبت البناتُ إلى بيوتهن فى وجل، وسكن الرعبُ فى كل بيتٍ يضمُّ بنتًا أو سيدة.

فى البَدء كانت شوارعُنا نظيفةً، والشجرُ مغسولًا، والبناياتُ أنيقةً والبشر. وكان العازفون يعزفون الموسيقى فى شوارع القاهرة. حتى جاء إنسانٌ وألقى ورقةً فى الطريق. الورقةُ جرحت عيونَ الناس. اندهشوا وتساءلوا مَن الجانى؟! فى اليوم التالى شاهدوا الورقةَ وشاهدوا الجانى. لكنهم اكتفوا بالاستنكار الصامت. وأصبحتِ الورقةُ ورقتين، ثم أكوامًا من القمامة، لم تعد تجرحُ عيونَ أحد. وانتقلتِ الدهشةُ من خانة الورقة، إلى الدهشة إذا رأينا شارعًا نظيفًا!.

إنه اللصُّ الأول والقاتلُ الأول والنصّابُ الأول والإرهابيىُّ الأول والمغتصبُ الأول والقذرُ الأول. إنه الشريرُ الأول. أولئك الذين أفسدوا براءتنا وعقّدوا حياتنا وسرقوا أعمارنا ولوثوا عيوننا وأسماعنا واختطفوا حريتَنا.

كلُّ سجنٍ، كان يمكن أن يكون حديقة. كلُّ سورٍ يُعطّلُ الشمس، كان ينبغى أن يكون أيكةَ زهور تغازلُ شعاعَ نور وترسمُ معه دانتيلا الظلال. كلُّ ثقبِ مفتاحٍ فى كلِّ بابٍ، كان بوسعه أن يكون عُشًّا يسكنه عصفور، أو شرنقةَ حرير تخرج منها فراشة. كلُّ قِفْل كان يجبُ أن يكون مفتاح حياة. كلُّ سجّان، كان يمكن أن يكون شاعرًا أو رسّامًا أو موسيقارًا أو نحّاتًا أو عاشقًا يسهرُ الليلَ ليصنعَ هديةً لحبيبته. كلُّ ساعة تُسرق من أعمارنا فى نقطة تفتيش، كان لا بد أن نغرسَ فيها شجرةً أو نقرأ كتابًا أو نكتبَ قصيدة أو نداعبَ طفلا أو نداوى مريضًا. زهورُ الشرّ حرمتنا من عازف بيانو يغسلُ قلوبنا بالفرح، واستبدلت به عشماوى يقصُّ أعناقَ الأشقياء.

أيها اللصُّ الأول فى التاريخ، أختصمُك أمام الله لأنك أفسدتَ حياتى وأدخلتَ فى معجمى مفرداتٍ لا أحبّها ولن أقبلَها، ولو عشتُ ألفَ عام.

«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترمُ الوطن».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أولُ لصٍّ أولُ مفتاحٍ في التاريخ أولُ لصٍّ أولُ مفتاحٍ في التاريخ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 08:21 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 13:16 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon