بقلم : فاطمة ناعوت
ستموتُ أمّى مساءَ اليوم، فى تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً. ويقعُ الخبرُ على قلبى كصاعقة مروّعة، وتميدُ الأرضُ بى، كما يتزلزلُ جبلٌ إثر بركانٍ جائح. أنخرطُ فى نوبة بكاء هيستيرىّ نصفَ يوم؛ رافضةً تصديقَ أن هذا العالم صارَ من غير أمى. ثمّ أستسلمُ للدموع الصامتة أيامًا، وأسابيعَ. وفى الأخير، أغرقُ فى بحر الخوف والقلق من الغد الموحش دون أمٍّ، سنواتٍ طوالاً، ربما لا تنقضى.
وكعادتى الدائمة فى محاولة تجميل الفواجع؛ بالبحث فى لُبِّها عن أى ملمح فرح، والتفتيش عن بصيص نور فى قلب الحلكة، سأقول لنفسى: (ماما ماتت خلاص! يعنى مش هاتموت تانى بُكرة أو بعده! ممتاز! يعنى مش هاعيش تانى لحظات الرعب من موتها وفقدانها. لأنها بالفعل ماتت خلاص، وقُضى الأمر). وأظلُّ كلَّ يومٍ أهنئُ نفسى على «معجزة» أن أمى لن تموت غدًا أو بعد غد. (وأُغفلُ أن أُكمل بقية الجملة: لأنها ماتت بالفعل!).
ولكى أؤكد الفكرةَ، كتبتُ فى «عيد الأم» التالى لوفاتها بجريدة «المصرى اليوم» مقالاً عنوانه: (صوتُ أمى لا يطيرُ مرتين)، استهللتُه بقولى: أرحمُ ما فى موت الأمهات؛ أنهنّ لن يَمُتن مرةً أخرى. جميلٌ أن ينتهى رعبُ المرءِ من فكرة «فقد أمّه». أذكرُ، وأنا طفلة، أنى ظللتُ أعيشُ ذاك الرعب الغاشم، منذ أدرك عقلى معنى الموت والحرمان إلى الأبد ممن نحبُّ. إذا ما سعلتْ أمى؛ أخافُ أن تموتَ، ويفرُغ العالمُ من حولى. إذا تأخرتْ فى العمل، أقفُ بالشرفة، مثل عصفورٍ مرتعد. يتلفّتُ رأسى يُمنةً ويُسرةً لأمسحَ الشارعَ من طرفيه، والوجلُ يفترسُ طفولتى: «ألن أراها أبدًا تدخلُ من مدخل العمارة؟!» وحينما كانت تمنعنى من اللعب أو الحلوى أو قراءة «ميكى» أو «أرسين لوبين» أو «المغامرون الخمسة»، لكى أستذكر دروسى؛ كان «الشريرُ» داخلى يرسم لى عالمًا رغدًا بلا أمّهات يُجبرن أطفالَهن على شرب اللبن والمذاكرة والحرمان من الأصحاب واللعب. لكنْ سرعان ما ينتفضُ «الطفلُ» داخلى، فأتوقُ للدفء وأفرح لأن أمى هاهنا. ولما مرضتْ أمى، مرضَها الأخير، كنتُ بمجرد أن أتركها بالمستشفى، أُناصبُ التليفونَ العداء. كلّما رنَّ، أخفقَ قلبى هلعًا من سماع ما أكره. حتى عدتُ إلى بيتى مساء يوم ٥ سبتمبر، قبل عيد ميلادها بستة أيام، لأجد الأنسر ماشين يحملُ صوتَ خالو أسامة يقول: (حبيبتى فافى، البقاء الله، أبلة سهير تعيشى إنتى! اجمدى واحتسبى!) انهدم العالمُ من حولى وتبدّد. لكن رعبى من موتها تبدّد كذلك. لن أفقدَها يومًا! لأن أمى لن تموت مرتين.
محاولةٌ بائسة للتنقيب عن فرحٍ أو راحة فى موت أمى «مرّةً واحدة»، بدل انتظار موتها كلَّ يومٍ! لكننى أدركُ الآن كم كنتُ أخدعُ نفسى! فالحقيقة أن أمى تموتُ كلَّ يومٍ منذ طيرانها إلى السماء مع كلِّ يوم جديد يصافحُنى دونها. مع كل محنةٍ تدهمُنى وحيدةً دون سند. مع كل أزمة عابرة تواجهُنى خلال نهارى؛ ولا أجد من يساعدنى عليها. مع كل صفعة من الحياة تصفعُنى ولا أجدُ من يربتُ على ظهرى ويُمسِّد شعرى قائلا: (ولا يهمك، أنا معكِ، وسوف يكون الغدُ أجملَ). مع كل عيد أمٍّ بلا أمٍّ. مع كل لحظة يقع فيها بصرى على رقمها على شاشة هاتفى. مع كل رنين مهاتفة أتلهَّفُ أن تكون من ماما؛ لأسمع صوتَها الذى تبخّر فى الأثير ولن يعود. مع كل نظرة إلى مذياعها الأثير وساعة الحائط فى بيتى؛ تلك التى كانت يومًا فى بيتها. مع كل لمحة لصورة زفافها بعدسة المصوّر الأرمنى «ڤان ليو». مع كل نظرة فى عينى «نبيل» لأتذكّرها تقولُ لى: (مطمئنة عليكى بعد موتى؛ عشان نبيل راجل عظيم). مع كلّ نظرة فى عينى ابنى «مازن» لأسمعها تقول: (مازن طفل مُشرِّف). فى عين ابنى «عمر» لأتذكر كم داخت به فى عيادات الأطباء لتنقذه من مرض «التوحد»؛ حتى إنها قبّلت يومًا يد طبيبة قائلة: (عُمَر لازم يخفّ يا دكتورة!)؛ فانهرتُ وأنا أرى ذاك الجبل الشاهق، الذى هو أمى التى لم تخضع يومًا لأحد؛ وهى تنحنى لتقبّل يدَ إنسان من أجلى!.
ماتت أمى قبل سنوات ولكن موتها لم ينته. بل يصفعُنى كلَّ نهار حين أصحو من نومى لأتذكر أن يومًا آخر عليّ أن أعيشَه دون أمى التى تركتنى وطارت، ويدى معلّقةً لم تزل فى طرفِ ثوبها. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترم أمهاتِ الوطن».