بقلم: فاطمة ناعوت
حينما يضربنى الحنينُ إلى مصرَ، إذا ما سافرتُ، أستمعُ إلى «أم كلثوم» و«عبدالوهاب». وحينما يضربنى الحنينُ إلى الإنسانية والطفولة، أُنصِتُ إلى «فيروز»، عصفورة الشمس، رمز العذوبة والبراءة. فى مثل هذه الأيام الخريفية الجميلة، التى تراوغ بين الصيف بخيوطه الصفراء الحادة، والشتاء بخيوطه الرمادية الحزينة، فى نهار خريفىّ يودّعُ صفحة الصيف، وينتظر قطرات الشتاء، قرّرت السماءُ أن تُهدى الأرض المنذورة للأحزان هدية جميلة؛ فمنحتنا «نهاد حداد»، الطفلة الآسرة التى ستغدو مع الأيام: «فيروز»، جارة القمر.
وكانتِ الصبيّةُ المليحة، كنزُنا الثمين، التى ستكبر يومًا بعد يوم لتغيِّر، مع الرحابنة، «عاصى» و«منصور»، ثم الابن الموهوب «زياد»، وجهَ القصيدة، ووجهَ الموسيقى، ووجهَ الغناء، ووجهَ الطفولة والجمال. كان ذلك قبل تسعين عامًا حين نقطةُ نورٍ سقطت فوق كوكبنا المُطرق على أحزانه فانتبه، ولاح على وجهه ظِلُّ ابتسامة، حين انتبهنا أنها «فيروز».. غيمةُ القَطْر العذب التى مرّت فوق صحارينا العطشى لكى تُبلِّل حلقَها الجاف.
«فيروز»، ظاهرةٌ عابرة للأزمنة والجغرافيا. ونحن أجيالٌ محظوظة إذ واكبناها. صوتُها يُشعرك بعجز اللغة، كلّ لغة، عن الإفصاح، فطاقةُ صوتها وطبقاتُه وموسيقاه ومخزون الطفولة الخبيئة بين موجاته تقول أكثرَ مما تقولُ الكلماتُ التى يحملها هذا الصوت، وإن كانت كلمات شعراء كبار مثل «جوزيف حرب» و«جبران» و«الأخطل الصغير» و«أحمد شوقى»، أو موشحات أندلسية.
كلُّ مَن تعوّد أن يبدأ صباحَه بصوت «فيروز» يراهنُ على نهارٍ طيب، يبتسم فيه المارّةُ للمارّة دون سبب سوى المحبة، مهما أثقلتِ الهمومُ القلوبَ. نهارٌ يقدّم فيه الإنسانُ أخاه لكى يمرَّ قبله فى الطرقات، ويحملُ فيه كلُّ إنسان وردةً ليلقيها على أول ما يصادفه فى الصباح!، هل هذا «كلام شُعراء» خيالىّ حالم؟، لماذا؟!، هل غدتِ المحبةُ والابتسامُ والرحمة والطفولةُ أصعبَ من العنف والتجهم والتطاحن؟، كيف سمحنا لأنفسنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه من فقر فى الروح وافتقار للحب وقدرة على الإيذاء وقد عاصرنا «فيروز»؟!. أؤمن أن بصوت «فيروز» طاقةً صوفية شفيفة بوسعها أن تنقّى الروحَ من شوائبها وغبارها. طاقةٌ تضع الإنسانَ فى حال صلاة دائمة. وإلا ما سرُّ تغيّر مِزاجنا بعد سماع أغنية لفيروز؟. أزعم أن مَن تعود الاستماع إليها يظلّ طفلًا لا يشيخ. «سيكبر خارج الزمن» مثلما قال «صلاح عبدالصبور» عن حبيبته. لهذا أسمعُها تقول لى الآن: «تعا تا نتخبى من درب الأعمار، وإذا هِنِ كبروا نحن بقينا صغار، سألونا وين كنتو؟ وليش ما كبرتو انتو؟ وبنقلون نسينا؟ واللى نادى الناس تا يكبروا الناس، راح ونسى ينادينا!!».
صوتُ «فيروز» لونٌ من الفن يهذّبُ النفسَ، فلا يجوز لإنسان تربّى عليه أن يحقد أو يكره أو يبتذلُ فى القول. وهى التى تقول له كلَّ أصيل: «لأجلكِ يا مدينة الصلاة أُصلى، عيوننا إليكِ ترحل كلَّ يوم، تدور فى أروقة المعابد، تعانقُ الكنائسَ القديمة وتمسحُ الحزنَ عن المساجد». قدّمت «فيروز» لهذا العالم لمحاتٍ من الجمال والالتزام والحب مثلما فعلت رموزٌ تاريخية ساطعة مثل: جيفارا وجان دارك وعبدالقادر الجزائرىّ والأم تريزا وغاندى وعمر المختار ومارتن لوثر كينج، وغيرهم من إشراقات هذا العالم. مَنْ مثل فيروز بلور داخلنا فكرة «العودة» إلى الأرض المُستلبة؟، مَن مثلها أبكانا على القدس وبذر فينا اليقينُ بعودتها ذات وعد؟، أىُّ شىء مثل صوتها ظلَّ يهتف بالوطن: أنْ عُدْ؟، حتى لكأن الوطنَ يرفض أن يعود كيلا يتوقفَ صدحُها عن الوعد بحُلمٍ طال انتظاره.
وردةٌ مشرقة لعينيك فى عيد ميلادك يا «قمر على دارتنا» لكيلا ننسى أن شيئًا حلوًا واكب زمانَنا، وأن الحياةَ جميلةٌ وتستحق أن تُعاش رغم كل ما يحدث فيها من اقتتال وعنف وإرهاب وغلاظة قلوب. نحن المحظوظين، الذين اتفق لنا أن عاصرنا «فيروز»، نرومُ أن نقبض على لحظة «الجمال» هذه قبل أن تمرّ، إذ كيف لنا أن نُمرِّرَ هبةً سماوية من دون أن نحتفى بها ونحمى وجودَها لكيلا تدهسَها مراراتُ الحياة التى تدهس كلَّ جميلٍ ونقىٍّ فى حياتنا؟، كيف لا نسرّب لأجيالٍ تلينا رسالةً تقول إننا كنا واعين أن غيمةً عذبةً مرّت من هنا، فرفعنا رؤوسنا عاليًا ولوحّنا لها بأكفّنا؟. دومى جميلةً أيتها الجميلة الـ«سمرا يا أمّ عيون وساع». وشكرًا يا فيروز لأنكِ موجودة.
تذكرتُ الآن شيئًا. قبل عشر سنوات، كنتُ أكتبُ مقالى فى مقهى «بيتا باراديس» بمدينة أنهايم/ كاليفورنيا. سألتُ النادلَ الأردنى أن يُشغّل أغنيةً لفيروز لأن اليوم عيد ميلادها، فقال لى النادلُ، «نسيم عُبيدات»، مبتسمًا: «تكرم عيونك، بشرط أن تقولى لها: عيشى ألفَ عام يا فيروز!».