توقيت القاهرة المحلي 20:00:39 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«حاجة تخوّف».. المعذّبون أمام المرآة!

  مصر اليوم -

«حاجة تخوّف» المعذّبون أمام المرآة

بقلم: فاطمة ناعوت

نحن الذين نرتدى الأسودَ المُبقَّع بالرمادى، وعلى ظهورنا ثلاثةُ خطوطٍ حمراء مُقوَّسة، وكأن يدًا عملاقة خمشتِ اللحمَ بأظافرها ففصدَ الدم. نحن الذين نصرخُ فى هلعٍ: «أنا معملتش حاجة»، راكضين من مكان إلى مكانٍ، حتى إذا ما صادفتنا المرآةُ تسمّرنا أمام صفحتها، شاخصةً عيونُنا، لنصافحَ أرواحَنا المصدوعة، ونتأكد أننا لسنا أنقياءَ كما نتوهّم، بل هناك ما يلوّثُ وهناك ما يُدنّسُ وهناك ما يُخيف. نحنُ المعذّبون الذين لا نعرف كيف نتحرّرُ من عذابنا، إلا حين يقنصُنا الجلادون ويبرقون فى عيوننا بفلاش الكاميرا التى تسجّل لحظة الخطيئة، فننصهر مثل الشمع الذائب، ونسقطُ فى غيبوبة لا منجاةَ منها إلا التطهّرُ من الآثام ومن الخوف!.

كيف تُصاغُ مثل تلك الأفكار المعقّدة شديدة العمق، على خشبة مسرح، دون الوقوع فى فخّ التجريد والاسكولائية المباشرة التى تهدمُ الفنَّ؟!. كيف تشاهدُ تلك الرؤى الفلسفية المركّبة لا فى قاعة محاضرة أو فى كتاب فلسفى، بل لحمًا ودمًا عبر حشد هائل من الشباب والصبايا تطفرُ منهم الموهبةُ والأداءُ الفائق والتناغم المتقن كأنهم يمارسون فنَّ الكتابة والتمثيل المسرحى وفنون الأداء الحركى منذ مائة عام، بينما أعمارُهم حول العشرين؟!. شىءٌ صعبٌ ومُلغزٌ لا يعرفُ سِرَّه إلا مايسترو صناعة النجوم: المخرج الكبير «خالد جلال».

دفعةٌ جديدة من دفعات «ورشة الارتجال والتمثيل» التى ينتقيها «خالد جلال» بملقاط الألماس من الموهوبين ويقوم بتدريبهم وضبط إيقاع مواهبهم حتى ينتجوا هذا العرض الجميل: «حاجة تخوّف»، الذى يُقدّم على خشبة «مركز الإبداع الفنى» ضمن عروض «المهرجان القومى للمسرح المصرى ٢٠٢٤».

من العبث أن أنكر حجمَ الخوف الذى تلبّسنى قبل بداية العرض وأنا أجلسُ فى الصف الأول من مسرح الغرفة المظلم إلا من إضاءات حمراء مريبة كأنها غرفة الإعدام، أتأملُ الفتيات الثلاث فى فساتينهن السوداء بملامحهن الجامدة Poker-Face وشعورهن المُسدلة وحركاتهن الرتيبة!. يرقصن على نغمات أغنية Twinkle Little Star بصوت الدمية الشريرة Chucky؛ واحدة منهن تنطُّ الحبلَ، والحبل غير موجود، والأخرى تلعبُ «الحجلة» على أرض غير مُخططة بالطباشير، والثالثة تتقدّم نحوك فى ثبات وبطء وهى تطرق برأسها وتشخصُ بعينيها الفارغتين فى عينيك مباشرة وكأنك «أنتَ» المقصود بهذه المحاكمة «الدورينماتية» التى سوف تخضعُ لها بعد قليل، حين يبدأ العرضُ المخيف، الذى تسبقه ضحكاتُهن الهستيرية المرعبة، كأنها أزيزُ موتى تحت التعذيب. واحدة منهن تحمل حول جيدها كاميرا، سوف تُطلق ضوء فلاشها فى لحظات انسحاق المعذبين حين يدركوا، أمام مرآة ميدوزا، خطاياهم ولحظات خوفهم. الطمع، الحقد، الإنكار، العجز، الحسد، الخيانة، اللاانتماء، العقوق، الاتجار فى البشر، طمس الهوية، الأنانية، وغيرها من فخاخ الشيطان وحبائله التى يلفّها حول أعناقنا لنسقط فى وحل الإثم ونتدنس بالخطيئة، ويكون علينا بعدئذ أن نتطهر من أدراننا ونتحمّم بنور الفضيلة، بعدما نتحرر من «الخوف» كشرط أساسى للنجاة. لهذا ينتهى العرضُ بأن يقتل المعذبون خوفَهم بقتل الأسرة الشريرة التى تمثل «الخوف» داخل أعماقنا. تلك الأسرة التى تحتجز الخُطاة فى قصر المرايا ليشاهدوا آثامهم وينسحقوا تحت وطأة مخاوفهم.

هذا العجوز الذى يحمل قنديلًا فى وهج النهار، لم يكن الفيلسوف «ديوجين» الباحث عن الحقيقة، بل كان المسخَ الدميم الذى يتصيّد ضحايا الخوف ويقودهم إلى القصر حيث طقوس العذاب.

شكرًا للفنانين الكبار «محمد حسيب»، «محمد نديم»، «هبة كامل»، «أشرف مهدى» وجميع الشباب الواعد الذين يجب ذكر أسمائهم جميعًا وتقديم التحية لهم على هذا العمل الفاتن تحت قيادة مايسترو الإخراج «خالد جلال»، الذى يمسك عصاه ليضبط إيقاع سيمفونية الارتجال الفنى المضفور باحترافية الأداء ليقدّم لنا على مدى السنوات الماضية: «قهوة سادة»، «بعد الليل»، «سلّم نفسَك»، «هبوط اضطرارى»، ثم «حاجة تخوف»، والقادمُ لا يقلُّ جمالًا بإذن الله. هذا «المايسترو» الذى يختار تلامذته بعين جواهرجى ينتقى الدرّ النفيس من حصى الأرض، ويصقل صخورَ الكربون فيتلألأ ألماسًا مُشِعًّا يخطف الأبصار ويسرُّ الناظرين.

شكرًا لكل هذا الثراء الفنى الوقّاد، وشكرًا للمهرجان القومى للمسرح المصرى ومديره النجم «محمد رياض» على هذه الجرعات الغنية التى ننهل منها على مدى أسبوعين من الفن الرفيع.

ومن نُثارِ خواطرى:

(مسرح)

لىَ الآنَ/ أن أسحبَ الستارةَ الحمراء/ وأنسحبَ من المسرحِ/ وأجلسَ مع جمهرة المتفرجين/ عساىَ/ أعيدُ بناءَ جدارٍ متصدِّعٍ/ فى عمق روحى../ أمَّا صورتى تلك/ التى مازالت ترقصُ فوق الخشبة/ فقد ألقيتُ بها / تمامًا فوق الشبكية/ لكى أتأمَلَها فيما بعد/ وحدى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«حاجة تخوّف» المعذّبون أمام المرآة «حاجة تخوّف» المعذّبون أمام المرآة



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon