بقلم: فاطمة ناعوت
«وإن جنحوا للسّلم فاجنحْ لها وتوكّلْ على الله»... من أجمل الإشارات القرآنية التى تدعو البشرَ للعيش أو «التعايش» فى سلام، لئلا يسودَ العنفُ بين الناس، ولكى يعمَّ السلامُ وهو مفتاحُ البناء والتحضّر. وأما الحذر فقد ورد فى التوجيه النبوى: «لا يُلدَغ مؤمنٌ من جُحر مرتين».
الأولى: يُحكى أن امرأةً رحيمة عثرت على ثعبان صغير جائع بردان، فقررت أن تنقذه. أخذته إلى بيتها وآوته، وراحت تطعمه حتى اعتاد عليها، فصار يتبعها أينما تحركت داخل المنزل، وفى نهاية اليوم كان ينام بجوارها على السرير مستمتعًا بدفئها. مرت السنوات وكبُر الثعبانُ. وفى أحد الأيام، فوجئت السيدة بالثعبان وقد توقف فجأة عن الأكل دون سبب. حاولت السيدة الرحيمة كثيرًا أن تحثَّ ثعبانها على الأكل، خوفًا عليه من الهلاك، لكن رفْض الثعبان الطعام كان حاسمًا، وظلَّ على حاله أسابيعَ عدّة رغم محاولات الأم الرحيمة. إلا أنه ظل يتبعها نهارًا وينام إلى جوارها ليلاً مثلما اعتاد منذ طفولته، بل صار يلتف حول جسدها وهى نائمة؛ كأنما يستمدُّ من جسدها الدفءَ والأمان. خافتِ السيدةُ على صغيرها من الموت جوعًا، فأخذته إلى الطبيب البيطرى ليفحصه ويحدد سبب رفضه الطعام. فحص الطبيبُ الثعبانَ، ثم التفت إلى السيدة وسألها: - «هل لاحظتِ أى أعراض أخرى عدا غياب شهيته وامتناعه عن الطعام؟»، أجابت السيدة: - «لا». سألها الطبيب ثانية: - «أمازال يرقد إلى جوارك أثناء نومه ليلاً؟»، أجابت السيدة: - «نعم. فهو متعلق بى كثيرًا ويتبعنى أينما ذهبت داخل المنزل، وينام بجانبى فى السرير كل ليلة». سألها الطبيب: - «ألم تلاحظى أنه فى بعض الأحيان يقوم بلف جسده حول جسدك؟»، اندهشت السيدةُ وهتفت: - «نعم نعم. فى الآونة الأخيرة وأثناء مرضه وإعيائه مع عدم الأكل، أحيانًا يلتف حولى أثناء نومى، طلبًا للدفء والحنان، وحينما أستيقظ يتبعنى بعينيه، فأهرعُ إليه بالطعام، لكنه للأسف يرفض الأكل ويظل فى مكانه». هنا تبسّم الطبيبُ بأسى، وقال: - «سيدتى، هذا الثعبان ليس مريضًا، بل يستعد لالتهامك! هو يجوِّع نفسَه أسابيعَ طوالاً حتى يستطيع ابتلاعك. وأما التفافه كل ليلة حول جسدك، فليس حبًا فيكِ ولا بحثًا عن الدفء والحنوّ كما تظنين؛ إنما يحاول أن يقيس حجمك مقارنة بحجمه لكى تستوعب معدتُه وجبةً بحجمك. ثعبانك يا سيدتى يعدُّ العُدّة للهجوم عليك واقتناصك فى الوقت المناسب؛ فخذى حذرك، وتخلصى من هذا الثعبان سريعًا!».
الثانية: يُحكى أن عجوزًا حكيمًا كان جالسًا على ضفّة النهر فى جلسة تأمل وصلاة روحية مع الله، فإذا به فجأةً يلمح عقربًا وقد سقط فى الماء، وراح يتخبط يأسًا محاولًا النجاةَ من الهلاك غرقًا. قرر الحكيمُ أن ينقذه؛ فمدّ إليه يده فلسعه العقربُ، فسحب الرجلُ يده صارخًا من فرط الألم. وعاد العقربُ إلى حاله يصارع الغرق، فما كان من الحكيم الطيب إلا أن مدَّ يدَه ثانية لينقذه. فلسعه العقربُ مجددًا لسعةً أقوى وأشد إيلامًا. وكردّة فعل ارتدادية طبيعية، سحب الرجلُ يده صارخًا من الوجع. وبعد دقيقة، شرع فى المحاولة الثالثة ومد يدَه لإنقاذ العقرب، والنتيجة معروفة. على مقربة من هذا المشهد العبثى، كان يجلس شابٌّ يتأمل ما يحدث صامتًا. لكن تكرار المشهد أخرجه عن صمته، فهتف قائلا: - «أيها الحكيم، ألم تتعظ من المرة الأولى، ولا من المرة الثانية؟!! وها أنت تحاول إنقاذه للمرة الثالثة؟! عجبًا لك ومنك!». لم يأبه الحكيمُ لتوبيخ الشابّ؛ وظل يعيد المحاولة مرّةً إثر مرةٍ حتى نجح أخيرًا فى إنقاذ العقرب وإخراجه لليابسة. بعد ذلك مشى باتجاه الشابّ الجالس، وربت على كتفه قائلاً: - «يا بنى. من طبع العقرب أن يلسع. ومن طبعى كإنسانٍ أن أُحبَّ وأعطف. فلماذا تريدنى أن أسمح لطبعه أن يتغلب على طبعى؟!».
الثالثة: يُحكى أن راهبًا اعتاد كلَّ نهار أن يذهب لشراء الجرائد من بائع فى الحى. كان البائعُ كلما شاهد الراهبَ لعنه وبصق عليه. فما يكون من الراهب إلا أن يأخذ الجريدة ويدفع ثمنها ويشكر البائع، ويمضى. ذات يوم ذهب الراهب لشراء الجريدة كعادته، يرافقه أحدُ أصدقائه. ولما لعنه البائعُ كالعادة، تمتم الراهبُ بالشكر وانصرف، فذُهل الصديقُ وقال للراهب: - «لقد لعنك!» فأجابه الراهبُ: - «نعم، لا عليك، هو يفعل هذا كل يوم، الله يسامحه». فاندهش الصديقُ وقال: - «كل يوم يشتمك ولا تأخذ موقفًا بل تكافئه بالشراء منه مجددًا؟!»، فقال الراهبُ: - «نعم يا صديقى، لأننى أرفض أن أكون ردّة فعل. أنا أصدر عن نفسى، وهو يصدر عن نفسه».
لا تصالح مع هادمى الوطن. ولا دهشة من لدغة العقرب وسموم الثعبان.