توقيت القاهرة المحلي 23:40:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كمال الجنزوري.. وداعًا فارس البسطاء!

  مصر اليوم -

كمال الجنزوري وداعًا فارس البسطاء

بقلم : فاطمة ناعوت

ترجَّلَ الفارسُ النبيلُ عن صهوةِ جواده الذى لم يبرحه حتى اللحظة الأخيرة. رحل رجلٌ عظيمٌ نابه عشِقَ مصرَ بكلّ جوارحه ولم يتوانَ عن خدمتها كلما نادته. رحل الذى حمل هموم الفقراء فى قلبه، ووضع الخطط التى تمنحهم حقهم فى حياة كريمة. رئيس وزراء مصر مرتين الذى أجمع على حبّه الناسُ، سواء فى فترات عمله أو بعدها؛ فى ظاهرة نادرة لا تتكرر.

التقيتُ به مرات عديدة فى مكتبه البسيط الأنيق بـ«الهيئة العامة للاستثمار»؛ كلما دعانى ليناقشنى فى مقال كتبتُه، أو لأهديَه كتابًا جديدًا صدر لى. فسجّلَ لى التاريخُ نعمةَ مُصافحة رمز إنسانى وقيمة علمية وسياسية من نسيج خاص لا يُمنحُ للأوطان إلا كلّ دهور. قال لى مرةً بأبوّةٍ وحنوّ: (أنتِ اتظلمتِ كتير، وأنا بحب المظلومين) فقلتُ له: (طول عمرك نصير المظلومين، عشان كده حضرتك فارس بدون درع). فكلُّ فارس يحتاجُ إلى دِرعٍ تحمى صدرَه من سِّهام الخصوم. لكنّ ذلك الرجلَ فارسٌ من طراز فريد. لا يمتشقُ سيفًا ولا يتدثّرُ بدرع. يتدرّعُ بحبِّ الناس، وفقط. يرافقه الهتافُ والتصفيقُ أينما ترجّل وحيثما جال.

شجرةُ الأقدار قد تجودُ علينا بالعباقرة، وقد تجودُ بالطيبين ذوى القلوب الرؤوفة، لكنها تغدو شحيحةً حين تقرّرُ أن تصنعَ المعادلةَ الفريدة، فيقترنُ الدهاءُ الفكرى والسياسى مع التحضُّر والسموّ والطفولة القلبية.. هكذا كان «كمال الجنزوري»، مثل ذلك النموذج البشرى النادر لا يعرفُ الدروعَ ولا الحراسات المشدّدة فى الترحال، رغم ما يفرضُه بروتوكولُ المنصب الرفيع. وكيف يحتاجُ ذلك الفارسُ إلى درع، وقد منح زهورَ عقله لصالح خير الوطن، ومنح زهورَ قلبه لصالح بسطاء الوطن؟!، لهذا أجمع الناسُ على حبّه، واحترمه الخصومُ الذين تتعارض مصالحُهم مع قراراته التى تنتصرُ للفقراء.

فى لقائى الأخير به العام الماضى، سألنى عن أحوال الدنيا والثقافة. وتشعّبَ بنا الحديثُ حول بسطاء الناس. وتذكّرتُ دورَه المشرّف مع طوائف الشعب المهمّشة منذ كان وزيرًا للتخطيط، ومرورًا بترؤسه لوزارات مصر وتنقله بين المناصب الرفيعة، وصولًا لأن أصبح أيقونة مصرية غالية مُتوّجًا بلقب: (وزير الغلابة). قلتُ له إن البسطاء فى بلادى لا ينسون أنهم كانوا فى بؤرة عقله وقلبه على مدار عقود طوال تنقّل فيها بين رفيع المناصب السيادية، ولم يتحوّل نظرُه يومًا عن هموم الفقراء والمُعوزين. وأخبرته أن سائقى الخاص حين علم أننى على موعد معه، ظلّ طوال الطريق يتحدث عن مواقفه الكريمة مع بسطاء مصر، وشدّد علىّ أن أنقلَ له حبَّه واحترامه، لأنه لا يحلُم أن يلتقى به شخصيًّا فى يوم من الأيام لينقل له ذلك بنفسه. فما كان من د. كمال الجنزورى إلا أن ضغط الزرَّ وطلب من مدير مكتبه أ. خالد العدوى أن يأمر بصعود السائق إلى مكتبه. ولَم يصدِّق الرجلُ البسيط وقد وجد نفسَه فجأةً أمام ذاك الهرم المصرى الشاهق، الذى نهض من مقعده وصافحه ثم عانقه عناقَ الصديق للصديق.. ثم سمح بأن نلتقط له صورة معه. بعدما خرج سائقى من المكتب قلتُ للدكتور الجنزورى: (أشكرك كثيرًا يا دكتور كمال. ذلك العناق الأخوى سوف تدومُ ذكراه فى حياة ذلك الرجل، وسوف يُخلّد فى ذاكرة أبنائه) فقال لى: (محبة البسطاء هى كنزى وثروتى، وليس المناصب الرفيعة).

ذلك الرجلُ النبيل كان يسرد ويشرح ميزانية الدولة بكل دقّة، دون أن ينظرَ فى أوراق، لأن اقتصاد مصر وصالحها كان همّه الشخصى المحفورَ فى عقله، مثل أسماء بناته. هو ذاته الرجلُ الذى إن خرج من مكتبه يومًا مشغولَ البال، ثم تذكّر فجأة أنه لم يُصافح مدراءَ مكتبه وطاقم السكرتارية والسُّعاة، عاد أدراجه معتذرًا، حتى يلقى عليهم سلام الوداع، ولا ينتظر إلى صباح الغد ليفعل.

فى عام ١٩١٧، أنشأ الملك «جورج الخامس»: «وسام الفارس»، الذى يُكرّم به الرموز الوطنية التى ساهمت فى منح بريطانيا مجدَها. وأما شعبُ مصرَ العظيم، فقد منح الدكتور كمال الجنزورى «وسام الفارس النبيل» من الطبقة الإنسانية الأولى؛ ليصبح «فارس البسطاء» وحامى حماهم.

أقول لشقيقتَى الجميلتين: منى وسوزان الجنزورى، لا تبكيا والدَكما الكريم، لأن الخالدين لا يرحلون. ولن أقول للدكتور كمال الجنزورى: «وداعًا»؛ فهو خالدٌ فى ذاكرة مصر لن يبرحها. فقط أقول له: (أحبُّك كثيرًا، وسوف أفتقد حديثَك الثرىّ المثقف)، وأعتزُّ كثيرًا بأن بعض كتبى لها مكانٌ فى مكتبته، ومكانةٌ فِى عقله الاستثنائى الجميل. رحمك اللهُ يا دكتور كمال، وأثابك فردوسَه العظيم يا هرمًا شاهقًا من أهرامات مصر الفكرية والسياسية والمجتمعية والإنسانية، وهذا أبقى وأخلد. «الدينُ لله.. والوطن لعظماء الوطن».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كمال الجنزوري وداعًا فارس البسطاء كمال الجنزوري وداعًا فارس البسطاء



GMT 19:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

‫تكريم مصطفى الفقى‬

GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:50 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض
  مصر اليوم - منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث

GMT 04:47 2021 السبت ,02 تشرين الأول / أكتوبر

الفنان محمد فؤاد يطرح فيديو كليب «سلام»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon