توقيت القاهرة المحلي 14:27:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أقدمُ لكم.. أبى

  مصر اليوم -

أقدمُ لكم أبى

بقلم: فاطمة ناعوت

فى مثل هذه الأيام فقدتُ أبى المثقفَ المتصوفَ الذى غرسَ فى قلبى حبَّ جميع خلق الله دون تمييز. علّمنى أن الكراهية فقرٌ أخلاقىّ وضعفُ إيمان. لم أسمعه يومًا يذكر غائبًا بسوء. وإن رحل شخصٌ كان يهمسُ: «اللهم ارحمه وموتى العالمين». علمنى أبى ألا أتمنى الشرَّ لإنسان، ولو آذانى. لأن القوةَ فى العُلوّ والغفران، لا فى التصاغر والانتقام. علمنى أن أقولَ: «سلامًا» لمَن لا يستحقُّ المجادلة، لأكون من: «عِباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا»، كما تنصُّ سورة «الفرقان/٦٣». علّمنى أبى أن حُبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله. وأن الانتصارَ لمظلومٍ آيةٌ من آياتِ الله العليا لأن الله تعالى حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بيننا محرّمًا؛ كما فى الحديث القدسى: «يا عبادى إنّى حرَّمتُ الظلمَ على نفسى، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظالموا». علمنى أبى أن مَن يكره لا يحبُّ. ولهذا أفخرُ دائمًا بأن «جهاز الكراهية» فى داخلى مُعَطلٌ، ولا أسعى إلى إصلاحه.

هذا أبى المتصوفُ النبيل الذى حفظ القرآن كاملًا، وكان يؤذنُ فى المسجد بصوته الجميل ويؤم المصلّين، علّمنى أن أحترمَ جميع العقائد؛ لأنها سعىٌ إنسانىٌّ وبحثٌ دؤوبٌ عن الخالق العظيم. كان أبى الجميل يُجلسنى على ركبتيه، وأنا فى الثالثة من عمرى، ويقرأ لى قصص الأنبياء. ويعلّمنى القرآنَ وضبطَ مخارج الكلمات. وكان يعشقُ العذوبةَ الصوتية. يُدير تسجيل جروندج GRUNDIG فتُشيعُ فى أرجاء البيت شقشقةُ «أم كلثوم» و«صباح»، وعلى الجهاز ذاته شغفتُ بعذوبة: «المنشاوى» و«عبدالباسط». وكان يحبُّ «فؤاد المهندس وشويكار»، ويتباهى بما لديه من مسرحياتهما مسجّلةً على أسطوانات، ويعتبرها «ثروة قيّمة». وكان دائمًا يقول إننى أشبه «شويكار». وذات يوم قامت أمى بمسح جميع الأسطوانات بما تحملُ من مسرحيات وأغانٍ لكى تسجّل عليها دروس الإنجليزية التى كان «مستر وليم» يعطيها لى وشقيقى! وحين اكتشف أبى تلك «الجريمة» حزن كثيرًا، وخاصمها. لكن خصامَ أبى كان يذوبُ بابتسامة. وكان خفيفَ الظل؛ حين ترتدى أمى فستانًا جديدًا وتسأله رأيه؛ يمازحها ضاحكًا: «الحكاية مش السَّدّ، الحكاية القصة اللى ورا السد!».

حين اكتشفتُ أننى عسراءُ، «شولة»، أى أكتبُ بيدى اليسرى، وبدأ زملائى فى المدرسة يضحكون لأننى عاجزة عن الكتابة مثلهم باليمنى، ركضتُ إليه باكيةً، فضمّنى إلى صدره، وقال: «هذا تميّزٌ، وليس عجزًا. كثيرٌ من العباقرة كانوا عُسرًا يكتبون باليسرى». وعدّد لى: آينشتين، أرسطو، بيتهوفن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندى، نيوتن، مارى كورى، دافنشى، مايكل- آنجلو، بيكاسو، كاسترو، آرم سترونج، وغيرهم، كانوا من العُسر. وبعدما حكى لى قصص أولئك العباقرة، علّمنى أن جين LRRTM١ فى المخ هو المسؤول عن العَسَر؛ لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم فى نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينةُ الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر رسّامين ونحّاتين وأدباء وفيزيائيين وعلماء رياضيات. وحين تنمّر زملائى فى المدرسة على اسم «ناعوت»، ركضتُ إليه أُسائله عن المعنى؛ فنهض إلى مكتبته وجلب «المعجم الوسيط»، وفتح باب «نَعَتَ»، وراح يقرأ لى: «يُقالُ فَرَسٌ ناعتٌ يعنى: أصيل سبّاق، ورجلٌ نُعتةٌ نَعيتٌ ناعوتٌ: أى غاية فى الرفعة، جيدٌ كريمٌ حسُنت خصاله..». لَكَم أشتاقُ إليكَ يا أبى، ولَكَم أحتاج إليك سندًا وصخرةً أتكئ عليها من تعب الحياة. أحسن اللهُ مُقامَك فى فردوسه الأعلى، وشكرًا لكل ما علمتنيه من قيم جعلتنى فى حال سلام روحى، رغم أن فاتورة محبة «جميع الناس» باهظةٌ وصعبة، فأنْ تُحبَّ «جميعَ» الناس يعنى أنْ يحاربَكَ «معظمُ» الناس!، لكن رضا الله خيرٌ من رضا البشر، وسلامَ الإنسان الداخلى أهمُّ من حُكم الناس. ولهذا قال الإمام «علىّ بن أبى طالب»: «لا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلّة سالكيه». ومحبةُ الناس حقٌّ لأن الله أحبَّ جميع خلقه، وهو الحقّ.

***

ومن نُثارِ خواطرى:

(أبي)

لا تأتِ الآن يا أبى!/ فأنا/ لم أعُدْ أنا/ والولدُ الذّى سرقَ قلمى/ وكسَّرَ دُميتى/ حتى أبكى/ لم يعُدْ هناك.

دعنى أُخبركَ/ أنَّ تعاليمكَ صارت سرابًا/ ليس لأنكَ مِتَّ/ منذ عشرين قرنًا/ بل لأنكَ /طِرتَ إلى السماء/ قبل أن تعلّمنى/ كيف أعزفُ الجيتارَ/ دون أن تجرحَ أوتارُه/ أوردتى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أقدمُ لكم أبى أقدمُ لكم أبى



GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 08:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon