توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

سارقو الثورات والثروات

  مصر اليوم -

سارقو الثورات والثروات

بقلم: فاطمة ناعوت

الثوراتُ أنشودةُ الشعوب الصادحةُ فى وجه الظلم والظلام؛ طلبًا للخلاص والحرية من الاستعباد والقهر والطغيان. لكنها مع ذلك، وكأى قصيدة مُغنّاة، قد تسقطُ على عيون عمياءَ لا تجيدُ قراءةَ الشِّعر؛ فتعمد إلى إساءة تأويل المعانى، أو تصادف آذانًا صمّاءَ لا تجيدُ تمييز النغم، فتتعمّد تشويه الإيقاع ليتحوّل إلى نشاز وضجيج.

وصدق «أبوالقاسم» إذ يقول: «إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة/ فلابد أن يستجيبَ القَدَر»، فإذا استجاب القدرُ وتكللت مساعى الثوارُ بالنجاح، وسقط الظلمُ مع سقوط الطُغاة، ودنتِ الثمارُ شهيةً لا تحقُّ إلا لمُستحقيها، تهافت نحوها غيرُ المستحقين يرومون قِطافًا. هنا تبرزُ أنيابُ الخطر تحيق بالثورات الشريفة، يحاولُ اختطافَها طامعون وطغاةٌ جددٌ يتدثرون بعباءة الشعب الثائر المستحق للحرية؛ فتتحورُ الثورةُ النبيلةُ من شريان نابضٍ يخفقُ بالحياة، إلى فخٍّ وفكٍّ غليظ يُطبقُ أنيابَه الحادة على خاصرة الحلم، فيهشّم مفاصله! تكرّر هذا السيناريو المقيتُ مع جميع ثورات التاريخ؛ حين تبرزُ من الظلام وجوهٌ شائهة يهرعون نحو ثمار الثورة اليانعة، لا بقلوب المؤمنين بالحريّة والعدالة، بل بعيون الطامعين وأنياب المُستغل. هم كما الخفافيش العمياء، تتربّص بفراشات ملونة، يُغريها الضوءُ ثم لا تلبث أن تجد أجنحتها مكبّلةً بظلال الظلام.

ليس الأمسُ ببعيد. مشاهدُ اختلاس الثورات وسرقة الثروات، شهدناها نحن الأحياء فى نهارات قريبة مازالت ساطعة فى ذاكرتنا، فى بلادنا وبلاد من حولنا، أو قرأناها فى كتاب التاريخ خَطّته دماءُ أجيال سابقة. يعيدُ التاريخُ نفسَه لأن لا جديدَ تحت الشمس. يقومُ المثقفون وشرفاءُ الوطن الرافضون غيومَ الظلام بالثورات النبيلة، وتُهرقُ الدماءُ الطهورُ وتُزهقُ الأرواحُ الطيبةُ ثمنًا للحرية، فإذا ما أشرق فجرُ الحرية وأزهرتِ الزهورُ على جنبات الوطن، انقضت على الإشراق طفيلياتُ التيارات المتطرفة تستغل تداعياتِ الثورة وفوضى الحدث، فتبعثرُ أبجدياتِ الحلم لتعيد تشكيلَه بما يخدم مطامعها، بل وقد تفتحُ الأبوابَ مُشرعةً لدخول الأعداء التاريخيين الذين هرموا وهرمت أحقادُهم أمام الأبواب الموصدة. أولئك الطامعون القافزون على صهوات ثورات الشعوب، لا يقرؤون الثورةَ كدعوة للعدل والحق والخير والجمال، بل كفرصة لتكريس أركان استبداد آخر، مغلفٍ بشعارات جوفاء ووعود كذوب، أبدًا لا تتحقق. يتوسّلون سياسة بنى صهيون الشهيرة فى الزحف البطىء نحو الهدف الاستيطانى. فى البدء يسيرون بخطوات هادئة ووجوه بشوشة تطفر بالبشر والسماحة، وكأنما هم جزءٌ من الحلم النبيل، حتى يزرعوا أقدامهم فى قلب المشهد، فيخرجون نحو النور مع الخارجين من الجماهير الطيبة، فإذا ما اندمجوا فى النسيج الثائر، سقطت الأقنعة وشاهت الوجوه وانفضحت الأرواح الباغضة، التى تُحوّلُ الظلمَ القديم إلى ظلم جديد، وتستبدل بالظلام الغابر ظلامًا أوغلَ إعتامًا.

لصوصُ الثورات مَهرةٌ فى وظيفتهم، يعرفون جيدًا كيف يسرقون الأصوات مثلما يسرقون الثروات. يدركون كيف يضبطون أوتار حناجرهم على إيقاع النشيد الجماهيرى النبيل؛ بعدما يخبئون داخله صدى أيديولوجياتهم الإقصائية الاستعبادية. وحالما تحين لحظة التمكين وينالون فرصة الإمساك بمقاليد الأمور، يتحولون إلى قضبان أخرى، ليست من الحديد والفولاذ كما السابق، بل من أعمدة الظلام المعتم تُحاصر الكرامة وتسجن الحرية التى ولدت من رحم الثورة. الخطورة الكبرى ليست وحسب فى سرقة الثورة، واستراق صوت الحُلم النبيل، بل يكمنُ الهولُ العظيم فى تفتيت الجسد الذى أشعل الثورة وشيّد الحُلم.

لصوصُ الثورات يعرفون جيدًا كيف يزرعون بين الناس شتاتًا، ويفككون الكتل المتضامّة إلى شيعٍ ومذاهبَ وطوائف متناحرة متباغضة كما خلايا مسرطنة فى جثمان عليل يأكلُ بعضُه بعضًا، بعدما كان جسدًا واحدًا صلبًا يقفُ ممشوقًا فى وجه الظلم والطغيان. ذاك أنهم يجيدون غرس بذور الريبة والشك بين الناس حتى تطرح مع الأيام أشجار الشر المحمّلة بحناظل البغضاء والارتياب والعداوة. فما كان صرخة واحدة قوية فى وجه الظلم، يتفتّت إلى حشرجات عليلة لجسد متهافت يهاجم نفسه بنفسه فيما يشبه التدمير الذاتى.

تلك التيارات المتطرفة لم تولد من متون الثورة، ولا أنجبتها لحظاتُ الفوضى التى عادةً ما تصاحب الثورات النبيلة، بل هى موجودة منذ البدء، كما الذئب الذى يدّعى الخمولَ حتى تحين لحظة الانقضاض على الطريدة. فهى تعدُّ العدة فى الخفاء طوال الوقت، تمتلك المال والسلاح والجهات الداعمة، ولديها العقول التى ترسم الخطط والحناجر التى تتقن دبج الشعارات الرنانة التى تُسفر دائمًا عن صفر كبير خاوٍ لا صدق فيه. تلك الفصائل تعرف متى تختبئ وتندسُّ فى متون العتمة، ومتى تخرج إلى براح الضوء لتعلن عن نفسها فى الوقت المناسب. تعرفُ كيف تخاطبُ البسطاء بلغتهم وكيف تلوّح لهم بأحلام لن ترى النور أبدًا.

أيها الثوارُ الشرفاءُ فى كل مكان: احذروا لصوصَ الأحلام سارقى الأوطان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سارقو الثورات والثروات سارقو الثورات والثروات



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon