بقلم : فاطمة ناعوت
(شرفُ الإنسان، رجلًا كان أو امرأة، هو «الصدق»). هكذا قالت السيدةُ التى حاربت طيلة حياتها الكذبَ والنفاقَ والازدواجيةَ، فحاربها طيلةَ حياتها وبعد رحيلها الكذبةُ والمنافقون والازدواجيون الذين يقولون ما لا يفعلون، وفى كل وادٍ يهيمون، يسبّون المثقفين ويلعنون، ويوزعون الجنّة والنار والرحمة والعذاب وفق أهوائهم الشوهاء، صانعين من أنفسهم الضئيلة آلهةً من دون الله، حاشاه جلّ وعلا.
رحلت الجميلة وقد آن لها أن تستريح بعد سبعين عامًا من الكفاح الشاقّ من أجل حق الإنسان فى الحياة الكريمة، وحق المرأة فى احترام جسدها الذى كرّمه اللهُ، لأنها صنعه وخلقه. أغمضت «نوال السعداوى» عينيها اللتين لم تغمضا فى وهج الشمس تسعين عامًا. هى الطبيبةُ والروائية والمفكرة والحقوقيةُ المصريةُ النابهة، التى كرّمتها معظم دول العالم الأول، ومنحتها جامعاتٌ عالمية عديدة درجة الأستاذية الفخرية لقاء ما قدمت للإنسانية من علم وتنوير وارتقاء بقيمة الإنسان بوجه عام، وقيمة المرأة بوجه خاص. ونسى وطنُها أن يُكرِّمَها بسبب التشويه المتعمّد والاغتيال المعنوى الذى مارسه ضدَّها الإخوان والمتطرفون الذين لم يقرأوها أو لم يفهموا ما كتبتْ. ذاك أن التكفير أقربُ إليهم من التفكير. واللعنُ أقربُ إلى قلوبهم من الرحمة. والنقلُ الأعمى أقربُ إلى عقولهم من التعقُّل والتدبّر. هى النبيلةُ التى عاشت تمنحُ ولا تأخذ مقابلًا لما تمنح. طالبت بحقوق المستضعفين، ودفعت هى فاتورةَ تلك الحقوق المُهدَرة، من سلامتها وأمنها وحريتها. هى الطبيبةُ التى أذبلتْ زهرةَ صباها فى علاج الفقراء فى نجوع مصر وقُراها، وأهرقتْ عُصارةَ روحها فى مناهضة تمزيق أجساد الطفلات والصبايا وترويع أرواحهن تحت مِقصلة طقس الختان الوحشىّ؛ فتصدّى لها ذوو الذقون واللحى يُكفّرونها ويشوّهون تاريخَها ويخوضون فى سيرتها ويُحبطون أعمالَها. لكنها لم تخنع ولم تخف. وهل تخافُ مقاتلةٌ جسور؟! لم يتوقف نضالُها الفكرى الجهور إلى أن تبنّى التشريعُ القضائى رسالتَها، وأمَّنتِ الدولةُ المصريةُ على وجاهة طرحها الفكرى والطبىّ، ودعمها المجلسُ القومى للمرأة وخرج إلى النور قانونٌ محترم يُجرِّمُ ختان الإناث. جاهرت نوال السعداوى برفض تلك العادة الإفريقية الفظّة قبل سبعين عامًا، فى وقت كان فيه مجردُ التفكير فى منع ذلك الطقس الدموى ضربًا من الخيال والكوميديا. تلك السيدةُ قالت «لا للختان» حين قالتِ الجموعُ: «نعم» فى منتصف القرن الماضى.
هى الكاتبةُ التنويرية التى دفعت من علمها ومالها وراحتها وسنوات عمرها الشىءَ الكثيرَ من أجل حقوق الإنسان، فكرّمها العالمُ بأسره، وأنكرها «أولادُ حارتنا»!. لا، لم يُنكرها جميعُ أولاد حارتنا، بل أنكرها أبناءُ ثقافة «قالوا له»: السمعيون الذين يسمعون ولا يتبصّرون، الذين ينقلون ولا يعقلون، الذين هم كسالى فى القراءة، نشطاءُ فى النقض والنقد، فى الانتقاد والانقضاض كما تنقضُّ الوحوشُ على ظبية برية فى الهدم والتشويه دون بيّنة، دون برهان، ودون إدراك. لكنَّ مثقفى هذا البلد الأمين يعرفون قدرَ تلك السيدة العظيمة، ويُجلّون شأنها، ويذهبون إلى حيث تَحُطُّ رحالها، حتى يتعلّموا كيف يُفكرون خارج الصندوق، وكيف يرفضون ما يهدمُ الإنسانَ ويُهين العقل والجسد، ويأبون إلا أن يساهموا فى صنع منظومة الجَّد المصرى القديم: «الحق- الخير- الجمال»، مهما كلّفهم هذا من شقاء ودماء وتعاسة. عام ١٩٨٠ وضعها الرئيسُ الساداتُ فى السجن استرضاءً للتكفيريين الهائجين. وفى عتمة المعتقل كتبت كتابها الجميل: «مذكراتى فى سجن النساء» بقلم حواجب على لفة من ورق التواليت تم تهريبها لها خلسة. وأطلق الرئيس مبارك سراحها عام ١٩٨١. لكن التهديد بالقتل لم يبرح قلوب أهل الشر، فاغتالوها معنويًّا كلّ يوم على مدى سبعين عامًا، حتى استراحت وذهبت إلى الرحمن الرحيم قبل أيام، وتبقى أعمالُها خالدة عصيةً على المحو.
رحلت الجميلةُ يوم عيد الأم ٢١ مارس ٢٠٢١، يوم تصديق البرلمان المصرى على تغليظ عقوبة جريمة الختان، ويوم إصدار الرئيس السيسى توصياته بإصدار قانون مستقل يُجرّم زواج الطفلات والقاصرات. فأىُّ مجدٍ أكثرُ من هذا؟!.. ما ناضلت من أجله سبعين عامًا يُسنُّ فى قوانين يوم رحيلها، وأوقنُ أنها تنظرُ إلينا اليوم من فردوس الله راضيةً مرضيةً باسمةً قريرة القلب وعيناها مفتوحتان فى وهج الشمس، وهى ترى كفاحها قد أوشك أن يؤتى ثمره.
تستحقُّ المفكرة الوطنية د. نوال السعداوى أن تُكرّم اليوم بما يليق بكفاحها التنويرى الطويل. تستحقُّ أن تتقلّد «قلادةَ النيل»، تكريمًا على ما قدّمته لاسم مصرَ من أمجاد فى المحافل الدولية، فكرّمتها الدولُ وكرّمت فيها اسمَ مصر الشريف.
طوبى لكلّ من حمل لواءَ مصر خارج مصر وسلامًا لروحك الطيبة.
«الدينُ لله والوطنُ لمن يحبُّ الوطن