توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قشرة البندق!

  مصر اليوم -

قشرة البندق

بقلم: فاطمة ناعوت

هل صادفتَ من قبل عزيزى القارئ رجلًا يأكل قشرة البندق، ويرمى ثمرتها الداخلية الشهية؟. أنا صادفتُ وأصادفُ كلَّ يوم مثل هذا الرجل، فهو كثيرٌ. هذا الشخصُ يوقنُ أن القشرةَ أهمُّ من القلب. فاته أن يتعلّمَ أن الثمرةَ المعطوبة لا قيمة لها وإن كانت قشرتُها برّاقةً زاهيةً تسُرُّ الناظرين. لم يعلّمه أبواه ومعلموه أن الجوهرَ أولى من المظهر، وأن المضمونَ أهمُّ من الشكل. الكأسُ: مظهرٌ، شكلٌ، وعاء. أما السائلُ داخل الكأس، فهو الجوهرُ، وهو المضمون، وهو الفكرة. ولولا السائل، ما كانت الكأسُ. وإن غاب السائلُ، ما الحاجة إلى كأس؟. هل تروقُ لك كأسٌ من البلّور الثمين، تحمل فى قلبِها رشفةَ سُمٍّ زعاف؟!، هل تمتدُّ لها يدٌ لحُسنها وبريقها؟، أم تكسرها اليدُ، وتلتقط كوبًا بسيطًا يسكنه الشهدُ الشهىُّ والإكسير الطيب؟.

كثيرون ممن نصادفهم كل يوم يرون الدينَ، أىَّ دين، مجموعة من الطقوس والكلمات المحفوظة، ولا بأس من «الكِمالة» بسبِّ الأديان الأخرى وتقريع مُعتنقيها وتسميم نهارهم وليلهم بالسخرية والتكفير والوعيد بالعذاب والهلاك كأنما يملكون سلطان الآخرة، كنوع من التوكيد على الصلاح والتقوى وكمال الإيمان!، «ولّما يدخل الإيمانُ قلوبهم». أولئك هم آكلو القشور لافظو ثمارها. الإيمان بالله وحبّ عباده هو الثمرةُ وهو الإكسيرُ وهو الجوهر، بينما الطقوسُ هى القشرةُ التى تدلُّ على الثمرة، والكأسُ المُظهرة للجوهر. العارفون يدركون أن صلاح النفس وحسن الخلق ونظافة القلب هو الغاية، وهو الجوهر الحق للدين لأن «الدين المعاملة». أما الشكلانيون الذين لم يتجاوز تديّنُهم الطقس ولم يقرنوا الشكل بالجوهر، فقد قال فيهم مولانا «جلال الدين الرومى» فى «المثنوى»: «اذْهَبْ، واسْعَ وراء المعنى، يا عابد الصورة.. فالروح التى تخلو من المعنى تكون فى الجسد مثل سيف خشبى فى غمده، فمادام السيف فى الغمد، بدا ذا قيمة، فإذا أُخرج منه صار آلة لا تصلح إلا وقودًا للنار، فلا تحمل إلى الميدان سيفًا خشبيًّا».

لهذا علّمنى أبى المتصوّفُ، وهو فى ظنّى من العارفين، أن الدينَ، كلَّ دينٍ وأىَّ دينٍ، هو جوهرٌ ورسالةُ حبٍّ وبِنيةٌ أخلاقية وروحية وسلوكية وتربوية، قبل أن يكون طقسًا، وأن مَن لم يملأ الحبُّ قلبَه للناس وربِّ الناس، لم يصل بعد إلى روح الله تعالى الذى أحبَّ جميعَ خلقه دون استثناء فمنحهم من فيض نعمه ما لا يُعدُّ ولا يُحصى.

ثمة رجلٌ يصلى الفروض، والسُّنن، ويصوم، ويُزكّى، ويحج، لكنه لا يجد غضاضة فى أن يجمع ما سبق من «عبادات»، بممارسة كل ألوان الفساد فى عمله من رشوة، يرشو أو يرتشى، ومن محسوبية، ومن مداهنة لرئيس، وظلم لمرؤوس، ومن تعيين معدومى الكفاءة من ذوى القربى والنسَب، وحرمان الكفء الغريب المستحقّ، وظلم المختلف العَقَدى وحرمانه من حقه فى الترقيات، والتكاسل عن خدمة المواطنين وغوث الملهوف منهم بتعطيل مصالحه، إذا حلّ موعد الصلاة فى مواعيد العمل، بينما يُجيز له الدين مساحةً زمنية فلسفتُها إتاحة الفرصة لإتقان العمل فى وقته. ثم يخرج من عمله، ليُكمل عبثَه مع الحياة، فلا مانع من أن يتحرش بفتاة فى الطريق؛ فهى مستباحةٌ مادامت خارج بيتها، (لماذا لم تقرّ فى بيتها؟). ولا بأس من أن يُلقى بمنديله الملوث أو أعقاب سجائره فى الطريق المُستباح، فقد نسى أول درس فى كتاب القراءة «النظافة من الإيمان»، فإن عاتبته لا يعتذر بل يصرخ فى وجهك: «وأنت مالك؟! الجميع يُلقى الزبالة فى الشارع، اشمعنى أنا؟! هى جات عليا؟!». وإن مرّت به فتاةٌ تضع صليبًا، أو راهبةٌ بتول، لا مانع من أن يفزعها صارخًا: «أعوذ بالله»، كأنما صادف شيطانًا رجيمًا، فتلك هى «كِمالة» طبق الكشرى الذى يُكمل بها تدينه الشكلى، فإن عاد إلى بيته توضأ وصلّى العصر، ثم تفرّغ لزوجته يُقرّعها لأن الملح زاد فى الطعام أو قلَّ، ولا بأس من كلمة جارحة أو نظرة مزدرية، «كمالة» الطبق. بعدها يجلس إلى التليفزيون سعيدًا، وبعدما يصلى العشاء، ينام قرير العين، وهو موقن من رضا الله ضامنٌ جنّة الخلد لأنه أدى «ما عليه» لله، ومن ثم فعلى الله أن يمنحه ما وعد.

لم ينجح الماليزيون مع «مهاتير محمد» فى تحويل ماليزيا من دولة متهالكة إلى دولة حضارية إلا بتسخير ميزانية الدولة لصالح التعليم والبحث العلمى، وغرس فلسفة اقتران التنمية الاقتصادية المستدامة بالقيم الأخلاقية، والاستثمار فى الثقافة بدعم الفنون والقوى الناعمة وتعزيز الهوية الماليزية. أولئك تمسكوا بالثمرة، وإكسير الكأس، وهذا جوهر الإيمان بالله. اللهم قِنا وقِ وطنَنا العزيز شرورَ آكلى قشور البندق المنافقين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قشرة البندق قشرة البندق



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon