توقيت القاهرة المحلي 14:45:30 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«البدلةُ الزرقاءُ وسامٌ»... قالتِ الجميلةُ

  مصر اليوم -

«البدلةُ الزرقاءُ وسامٌ» قالتِ الجميلةُ

بقلم - فاطمة ناعوت

اللهُ رحيمٌ. اللهُ عادلٌ. هذا لأنه «الله». بوسعه تعالى جلَّ شأنُه، أن يكون رحيمًا وعادلاً فى آن واحد. أما نحن، بنو الإنسان ذوو القدرات المحدودة، فليس بوسعنا أن نكون رحماءَ وعادلين، فى أمر واحد، وفى نفس اللحظة. بل إننا غير قادرين حتى على تصوّر كيف تتّحد الرحمةُ مع العدل فى أمرٍ واحد. الرحمةُ تنتقِصُ من العدل. والعدلُ ينقُضُ الرحمة. خذ هذا المثال: امرأةٌ سرقت رغيفَ خبزٍ لكى تُطعِمَ صغارَها الجوعى. هنا، على القاضى أن يكون إما عادلاً فقط، أو رحيمًا فقط. إن حكمَ بالعدل، عاقبَ المرأةَ لأنها «سارقة» وإن حكمَ بالرحمة، عفا عنها لأنها «أمّ». لا احتمالَ ثالثٌ. ويُسمِّى الفلاسفةُ هذا الاحتمالَ الثالث المستحيل: «الثالث المرفوع». لأنه مرفوعٌ من قائمة الاحتمالات، أو غيرُ موجود. المُتَّهمُ إما «مُذنبٌ» وإما «برىء»، لا ثالثَ هناك. وهنا تظهرُ إشكاليةٌ عصيةٌ على الحلّ. إن كان القاضى رحيمًا وأطلق سراحَ سارقة الرغيف، عُيِّرَ المجتمعُ لأن قُضاتِه يُبرّئون اللصوص! وإن كان القاضى عادلاً وسجنها، عُيِّرَ المجتمعُ أيضًا لأن قُضاته يسجنون الأمهاتِ الفقيراتِ، ويُعرّضون أطفالَهن للتشرّد والموت جوعًا. تلك مأساةُ القُضاة. أما بالنسبة للمرأة فالأمرُ جَدٌّ مختلف. فإن أُطلِقَ سراحُها، فإنها «رحمةُ» الله قد تجلّت. وإن سُجنت فذلك «كرمُ» الله قد منحها شرفَ السجن لإطعامِها طفلاً جائعاً. هنا يكونُ السِّجنُ شرفًا، لأن التهمةَ نبيلةٌ. أما المجرمُ الحقيقى فى القضية السابقة، فهو ذلك «البليدُ» «التافهُ» الذى قدّم بلاغًا فى امرأة أخذت رغيفًا سوف يقتاتُ منه صغارٌ.

ذاك المجرمُ البليدُ موجودٌ بصورٍ شتّى فى عصور شتى ومجتمعات شتى. لكنه لا يجد أرضًا خصبة لمراهقته وتفاهته إلا فى تربةٍ رجعية مترهّلة تسبح فى الظلام خارج الزمن. ذاك البليدُ هو الذى صلَبَ الحلاجَ وقطع رأس السهروردى وحرق كتب ابن رشد وطارد أبوبكر الرازى والكندى وجاليليو وفولتير وابن عربى وطه حسين ونصر حامد أبوزيد، وقتل فرج فودة، وسرق من عمرى أنا ثلاثَ سنوات، وسجن إسلام بحيرى وسجن الشيخ محمد عبدالله نصر، وهو يتنمَّرُ الآن للدكتور يوسف زيدان.

هذا التافهُ البليدُ الذى يطاردنا بالقضايا يأكلُ كلَّ يومٍ طنًّا من الشطائر والثريد والشحوم، ويترهلُ على أرائك الكسل، ولم يُضبَط مُتلبّسًا بقراءة كتاب، ولم يُرَ غاضبًا لرؤية طفلٍ عار يرتعش بردًا أو طفلةٍ حافية تُمزّقُ الحصواتُ لحمَها وينهشُ الجوع بطنَها. لم يُسجِّلِ التاريخُ أنه رفع دعوى قضائية واحدة ضد مُتحرّشٍ بالنساء أو مُفجّرِ مسجد أو كنيسة أو مغتصِبِ طفلة، لكنه يُشاهَد حاملا تحت إبطيه دفترًا عامرًا بقضايا تافهة ضد مثقفين ومفكرين وأدباء ورهبان وشيوخ ينادون بالسلام والحب بين الناس.

لهذا لم أندهش حين هاتفتُ السيدةَ الجميلة، والدة الشيخ محمد عبدالله نصر، يومَ خروجه من السجن على ذمّة قضايا مازالت قيد الحكم، لأبارك لها فقالت لى بفخر: «بدلة السجن الزرقا اللى لبسها ابنى، وسام شرف على صدرى، بالظبط زى بدلة والده العسكرية اللى حارب بها العدوّ فى ٧٣».

يا عزيزى الشيخ إن حكم القضاةُ ببراءتك، فتلك «رحمةُ» الله، وطوبى للقُضاة ولك. وإن أدانوكَ وسجنوكَ، فذلك «كرمُ» الله وشرفٌ لك.

ويطيبُ لى أن أهديكَ مقطعًا من قصيدة «سجن»، التى كتبتُها وأنا على عتبات السجن الذى كان الُله رحيماً بألا أدخله، مثلما كان كريمًا بدخولك فيه.

«أيها السجّانون الغِلاظُ/ وفِّروا زنازينَ العتمة / لسافكى الدمِ وقاتلى الأحلامْ / وخلّوا عنى كلبشاتِ الفولاذِ التى أولى بها لصوصُ العقولِ وسارقو الأوطانْ/ …. / لو كانوا يعلمون / لوفَّروا أطنانَ الحديدِ/ وشكائرَ الأسمنتْ/ من أجلِ الفقراءِ/ يبنون لهم منازلَ وأكواخًا/ تحمى أجسادَ العرايا/ من ويلاتِ الصقيع/ لا تُشْهِروا أمامَ وجهى سيوفَكم/ فلا حاجةَ لى بها لأُنحَر/ أنا تقتلُنى كلمةٌ تخرجُ من فمٍ عبوسْ/ لا يحِبُّ النغَم».

عزيزى الشيخ محمد عبدالله نصر، أهلاً بك ضيفَ الشرف فى صالونى الشهرى السبت القادم ٢٧ يناير، بمكتبة مصر الجديدة، بإذن الله.

 

نقلا عن المصري اليوم القاهريه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«البدلةُ الزرقاءُ وسامٌ» قالتِ الجميلةُ «البدلةُ الزرقاءُ وسامٌ» قالتِ الجميلةُ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 13:16 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon