بقلم - فاطمة ناعوت
اللهُ رحيمٌ. اللهُ عادلٌ. هذا لأنه «الله». بوسعه تعالى جلَّ شأنُه، أن يكون رحيمًا وعادلاً فى آن واحد. أما نحن، بنو الإنسان ذوو القدرات المحدودة، فليس بوسعنا أن نكون رحماءَ وعادلين، فى أمر واحد، وفى نفس اللحظة. بل إننا غير قادرين حتى على تصوّر كيف تتّحد الرحمةُ مع العدل فى أمرٍ واحد. الرحمةُ تنتقِصُ من العدل. والعدلُ ينقُضُ الرحمة. خذ هذا المثال: امرأةٌ سرقت رغيفَ خبزٍ لكى تُطعِمَ صغارَها الجوعى. هنا، على القاضى أن يكون إما عادلاً فقط، أو رحيمًا فقط. إن حكمَ بالعدل، عاقبَ المرأةَ لأنها «سارقة» وإن حكمَ بالرحمة، عفا عنها لأنها «أمّ». لا احتمالَ ثالثٌ. ويُسمِّى الفلاسفةُ هذا الاحتمالَ الثالث المستحيل: «الثالث المرفوع». لأنه مرفوعٌ من قائمة الاحتمالات، أو غيرُ موجود. المُتَّهمُ إما «مُذنبٌ» وإما «برىء»، لا ثالثَ هناك. وهنا تظهرُ إشكاليةٌ عصيةٌ على الحلّ. إن كان القاضى رحيمًا وأطلق سراحَ سارقة الرغيف، عُيِّرَ المجتمعُ لأن قُضاتِه يُبرّئون اللصوص! وإن كان القاضى عادلاً وسجنها، عُيِّرَ المجتمعُ أيضًا لأن قُضاته يسجنون الأمهاتِ الفقيراتِ، ويُعرّضون أطفالَهن للتشرّد والموت جوعًا. تلك مأساةُ القُضاة. أما بالنسبة للمرأة فالأمرُ جَدٌّ مختلف. فإن أُطلِقَ سراحُها، فإنها «رحمةُ» الله قد تجلّت. وإن سُجنت فذلك «كرمُ» الله قد منحها شرفَ السجن لإطعامِها طفلاً جائعاً. هنا يكونُ السِّجنُ شرفًا، لأن التهمةَ نبيلةٌ. أما المجرمُ الحقيقى فى القضية السابقة، فهو ذلك «البليدُ» «التافهُ» الذى قدّم بلاغًا فى امرأة أخذت رغيفًا سوف يقتاتُ منه صغارٌ.
ذاك المجرمُ البليدُ موجودٌ بصورٍ شتّى فى عصور شتى ومجتمعات شتى. لكنه لا يجد أرضًا خصبة لمراهقته وتفاهته إلا فى تربةٍ رجعية مترهّلة تسبح فى الظلام خارج الزمن. ذاك البليدُ هو الذى صلَبَ الحلاجَ وقطع رأس السهروردى وحرق كتب ابن رشد وطارد أبوبكر الرازى والكندى وجاليليو وفولتير وابن عربى وطه حسين ونصر حامد أبوزيد، وقتل فرج فودة، وسرق من عمرى أنا ثلاثَ سنوات، وسجن إسلام بحيرى وسجن الشيخ محمد عبدالله نصر، وهو يتنمَّرُ الآن للدكتور يوسف زيدان.
هذا التافهُ البليدُ الذى يطاردنا بالقضايا يأكلُ كلَّ يومٍ طنًّا من الشطائر والثريد والشحوم، ويترهلُ على أرائك الكسل، ولم يُضبَط مُتلبّسًا بقراءة كتاب، ولم يُرَ غاضبًا لرؤية طفلٍ عار يرتعش بردًا أو طفلةٍ حافية تُمزّقُ الحصواتُ لحمَها وينهشُ الجوع بطنَها. لم يُسجِّلِ التاريخُ أنه رفع دعوى قضائية واحدة ضد مُتحرّشٍ بالنساء أو مُفجّرِ مسجد أو كنيسة أو مغتصِبِ طفلة، لكنه يُشاهَد حاملا تحت إبطيه دفترًا عامرًا بقضايا تافهة ضد مثقفين ومفكرين وأدباء ورهبان وشيوخ ينادون بالسلام والحب بين الناس.
لهذا لم أندهش حين هاتفتُ السيدةَ الجميلة، والدة الشيخ محمد عبدالله نصر، يومَ خروجه من السجن على ذمّة قضايا مازالت قيد الحكم، لأبارك لها فقالت لى بفخر: «بدلة السجن الزرقا اللى لبسها ابنى، وسام شرف على صدرى، بالظبط زى بدلة والده العسكرية اللى حارب بها العدوّ فى ٧٣».
يا عزيزى الشيخ إن حكم القضاةُ ببراءتك، فتلك «رحمةُ» الله، وطوبى للقُضاة ولك. وإن أدانوكَ وسجنوكَ، فذلك «كرمُ» الله وشرفٌ لك.
ويطيبُ لى أن أهديكَ مقطعًا من قصيدة «سجن»، التى كتبتُها وأنا على عتبات السجن الذى كان الُله رحيماً بألا أدخله، مثلما كان كريمًا بدخولك فيه.
«أيها السجّانون الغِلاظُ/ وفِّروا زنازينَ العتمة / لسافكى الدمِ وقاتلى الأحلامْ / وخلّوا عنى كلبشاتِ الفولاذِ التى أولى بها لصوصُ العقولِ وسارقو الأوطانْ/ …. / لو كانوا يعلمون / لوفَّروا أطنانَ الحديدِ/ وشكائرَ الأسمنتْ/ من أجلِ الفقراءِ/ يبنون لهم منازلَ وأكواخًا/ تحمى أجسادَ العرايا/ من ويلاتِ الصقيع/ لا تُشْهِروا أمامَ وجهى سيوفَكم/ فلا حاجةَ لى بها لأُنحَر/ أنا تقتلُنى كلمةٌ تخرجُ من فمٍ عبوسْ/ لا يحِبُّ النغَم».
عزيزى الشيخ محمد عبدالله نصر، أهلاً بك ضيفَ الشرف فى صالونى الشهرى السبت القادم ٢٧ يناير، بمكتبة مصر الجديدة، بإذن الله.
نقلا عن المصري اليوم القاهريه