بقلم : فاطمة ناعوت
التسامحُ الدينى»، عبارةٌ طيبة نسمعُها دائمًا من القامات الدينية الرصينة فى المجتمع المصرى. والمقصودُ بها المناداة بالعيش فى سلام بعيدًا عن الشقاقات الطائفية التى تهدمُ الوطنَ وتُعرقل رحلة النهوض والتنمية. والعبارةُ دائمًا يقولُها فمٌ وطنىٌّ مسالم، يكره العنفَ ويرجو أن يحيا الناسُ فى سلام ومحبة لكى يعملوا ويُعمّروا الوطنَ بعيدًا عن النزاع العَقَدى، الذى لا يُفضى إلا للدماء والفواجع والهدم. واليومَ أريدُ أن أتأمل معكم تلك المفردة: «تسامح»، لنقفزَ منها خطوةً للأمام.
دعونا نردُّ الكلمةَ إلى المعجم، لنقفَ على معناها اللغوىّ الدقيق. فى المعجم «الوسيط» نجد: (تسامَحَ الشَّخصُ فى الأمر: تساهَل فيه وتهاون). مثال: (لا تتسامحُ الدَّولةُ مع الخونة والمتآمرين). نكتشف هنا أن «التسامُح» يأتى مع الجرائم والدنايا، فليس واردًا أن نقول مثلًا: (المعلّمةُ تتسامح مع ذكاء تلميذها)، بل نقول: (تسامحتِ المعلمةُ مع الأخطاء الإملائية، حين أعجبها موضوع التعبير). وفى «لسان العرب»: (السماحُ والسماحةُ: الجودُ والعطاء عن سخاء). وفى الحديث يقول اللهُ تعالى: «أسمِحوا لعبدى كإسماحه إلى عبادى»، أى كونوا كرماءَ مع عبدى مثلما هو سخىٌّ مع عبادى. وسمح لى فلانٌ، أى سمح لى بشىء (بوسعه منعه). ويُقال: «سمحتِ الناقةُ» إذا (انقادت). والمسامحة: المُساهلة فى الطعان، وهو الطعنُ فى العرض والشرف. والخلاصة أن كلمة: «سَمَح» تُقال عند التكرّم بالعطاء والتفضُّل بالموافقة، أو الاتّباع والانقياد.
فهل ترون الكلمةَ مناسبةً ودقيقةً لغويًّا، حال الكلام عن (احترام) حقّ الآخر العَقَدى فى اعتناق ما يشاء من أديان؟!. إن احترمَ مسلمٌ مسيحيًّا، أو احترم مسيحىٌّ مسلمًا، هل يُعدُّ ذلك تَفضُّلًا وسخاءً من قوى لضعيف؟، هل هو مذلّةٌ وخنوعٌ من ضعيفٍ لقوىّ؟، لا هذا ولا ذاك. كلا المعنيين خطأ ومَعيبٌ ولا يرضاه إنسانٌ حرٌّ فى مجتمع حرٍّ.
فحين تحترم المختلفَ عنك دينيًّا وتحبّه فلا تحاربه ولا تقتله ولا تزدرى دينَه، فلا أنت ذليلٌ تابع، ولا أنت كريمٌ مُتفضّل. إنك فقط إنسانٌ سوىٌّ ناضج نجوتَ من مرض الطائفية، الذى ابتُلى به سفاحون أهرقوا الدماء فى الحروب الدينية من الصهاينة والصليبيين والدواعش. وحين «تتعايش» مع المختلف عنك دينيًّا فأنت فقط إنسانٌ طبيعى عاقل. وقد وضعتُ كلمة: (تتعايش) بين مزدوجين، لأننى أرفضُها أيضًا، وأستبدلُ بها كلمة أرقى هى: (العيش)، فالتعايشُ لا يكون إلا مع «عدو» أو «مرض»، فمريضُ السُّكر «يتعايش» مع مرضه. والشخصُ «يتعايش» مع جار السوء. لكنك «تعيشُ» مع أسرتك وأصدقائك وجيرانك الطيبين. (التعايش) فلسفيًّا ولغويًّا يشبه (التسامح)، كلاهما يحملُ معنى «الجبر والاضطرار»، فأنت (تتسامح مع عدوك)، (وتسامِحُ مَن أساء إليك)، (وتسمح لإنسان بما ليس له). وجميعها معانٍ مغلوطة حال الكلام عن بشر أحرار يعتنقون عقائدَ مختلفة يعيشون معًا على أرض واحدة أو فى كون واحد، فالمختلف عنك عقديًّا ليس عدوك، ولستَ تمنحه ما ليس من حقّه، حين تحترم اختلافه عنك.
الأخطرُ من كلِّ ما سبق هو أنك حين تسمحُ بشىء، فأنت بالضرورة تملك حقَّ «ألّا» تسمح به، فمثلًا: (أسمحُ لك باستخدام قلمى) جملةٌ صحيحة. ولكن: (أسمحُ لك باستخدام قلمك!!!) جملةٌ غير صحيحة، فمن حقى «ألّا» أسمح لك باستخدام قلمى، ولكن هل من حقى ألّا أسمح لك باستخدام قلمك؟!. الأمر ينطبقُ على حرية العقيدة، فليس من حقى أن (أسمح أو أتسامح مع) ألّا يدين إنسانٌ بدينى، ببساطة لأننى لا أمتلكُ الحقَّ فى (ألّا أسمح أو أتسامح) مع ذلك. هو حرٌّ بقدر ما أنا حرّة، ولا تفضُّل من أحدنا على الآخر.
وبناءً على ما سبق، فإننى حين أرفضُ النعرات الطائفية وأحاربُها، فلستُ «مسلمة متسامحة»، بل أنا إنسانٌ طبيعى ناضجٌ أعرفُ حدودَ حقوقى فلا أتجاوزها، وأعرفُ واجباتِى فأؤديها. وحين زار الرئيس/ «عبدالفتاح السيسى» الكاتدرائية لتهنئة أشقائنا المسيحيين فى عيدهم، كان حاكمًا عادلًا يعرف حقوقَ مواطنيه كرئيس ناضج مستنير مثقف، ويدرك واجباته تجاه أبناء وطنه. وحين حارب المصريون جميعَ حروبهم معًا مسلمين ومسيحيين، لم يكونوا «متسامحين دينيًّا»، بل مصريون وطنيون ناضجون يقفون فى وجه عدو واحد. وحين خرجنا فى ثورتى 1919 و2013 معًا مسلمين ومسيحيين، «لم نكن متسامحين دينيًّا»، بل سلكنا سلوك المواطن الناضج الذى خرج لينصر وطنَه ضد الاحتلال الإنجليزى وضد الاحتلال الإخوانى. وحين نختصمُ، نحن جبهة التنوير، المتطرفين الذين يُكفِّرون الناس على صفحاتهم ومنابرهم، فنحن لسنا متسامحين، بل بشرٌ أسوياء عاقلون غير مرضَى. لستُ متسامحة دينيًّا حين أحبُّ البشرَ دون النظر إلى عقائدهم، بل إنسانٌ حُرٌّ يشكرُ الله على نعمة العقل. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحترمُ الوطن