بقلم - فاطمة ناعوت
«بسم الله الرحمن الرحيم.. أنا بحبك يا د. (هانى الناظر). شكرًا على إنك عالجتنى. إنت جميل أووووووى. أنا بحبك أووووى ونفسى أشوفك كل يوم وتيجى عندنا الفيوم. وأنا نفسى أطلع دكتورة زى حضرتك. حور».
هذه الكلماتُ الجميلة مكتوبةٌ بالقلم الجاف على صفحة منزوعة من كراسة فى حقيبة طفلة صغيرة اسمها «حور». كتبت الطفلة هذه الرسالة وأرسلتها للرجل العظيم الذى فقدناه الأسبوع الماضى، الدكتور «هانى الناظر»، الرئيس الأسبق للمجلس القومى للبحوث، أحد رواد علاج الأمراض الجلدية، رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية لتبسيط العلوم، والأهم من كل ما سبق: «طبيب الغلابة»، كما أطلق عليه ملايين المُحبين والمريدين ممَن شيّعوه على صفحات التواصل الاجتماعى.
الرسالة السابقة تحكى الحكاية كلَّها وتختصرُ الحدوتة المصرية المشرقة التى صنعها طبيبٌ عرف كيف يحبّ الناسَ بوصفهم «بشرًا يستحقون» الحياةَ الأفضل، لا بوصفهم مرضى وحالاتٍ تُسجّلُ أسماؤهم أرقامًا فى كشوف عياداته، وأمام كل اسم مبلغ مالى. معظم مرضاه ممن شيّعوه فى جنازه المهيب ووقفوا أمام جثمانه للصلاة عليه فى المسجد، أو رثوه على الصفحات، لم يرهُم ولم يروه. عالجهم دون أن يراهم!، وكيف بوسع طبيب أن يستقبل فى عيادته آلاف السائلين نُصحًا كل يوم؟!. لهذا جعل من صفحته عيادة مفتوحة لا تغلق أبوابها على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. يتفحص الشكاوى، حالةً بحالة، ويكتب روشتاته فى خانة التعليقات لكل حالة يمكن علاجها دون فحص فيزيقى مباشر فى العيادة، ثم يتابع تطور الحالات حتى تمام الشفاء. يفعل كل هذا بالمجان دون حتى أن يشهد ابتسامة الرضا التى تكسو وجه المريض إذا شُفى، ونظرة الامتنان التى يُرسلُها الُمعافَى لوجه طبيبه الذى كان سببًا فى الشفاء. ومَن قال إنه لم يكن يتقاضى أجرًا؟!، بل تقاضى ثرواتٍ طائلة من مرضاه. «الدعاء». ويا له من كنزٍ هائل ليس بوسع خزائن الأرض أن تحمله!. هذه «الفيزيتة» المخصومة من أرصدة البنوك الأرضية تُحوّل مباشرة إلى خزائن السماء، وتصبُّ فى رصيد الطيبين عند رب العرش لتثقلَ كفّة الميزان فتستبشر الوجوهُ ويطيبُ المُقام فى الدار الآخرة، لتكون الماصَدَق لقوله تعالى: «فأمّا مَن ثقُلَت موازينُه فهو فى عيشةٍ راضية». ولم يكتفِ د. «هانى الناظر» بالعلاج المجانى لملايين المرضى عبر صفحته على «فيس بوك»، بل كان يستقبل غير القادرين منهم فى عيادته ويتولّى علاجهم الكامل بالمجان. وحين سأله الإعلامى «محمود سعد» عن تضحيته بأرقام خيالية كان يمكن أن يتقاضاها مقابل علمه، قال مقولته الخالدة: «دعاء الناس أعظم من فلوسهم».
المدهشُ حقًّا أنه ظلَّ يعالج مرضاه، حتى وهو على فراش المرض الصعب الذى رحل عنّا فى مُنتهاه. بين نوبات الألم العنيف، كان يتواصل مع قرائه ويصف لهم العلاج، ثم يعود إلى غيبوبة المرض اللعين. وأؤمن أن هذه إحدى سمات المجد التى يمنحها اللهُ تعالى لفرائد عباده الصالحين. أن يظلَّ الإنسانُ يعمل ويمارس شغفَه حتى آخر لحظات حياته. فلا شىء أمجد ولا أجلَّ من أن يرحل الفارسُ وهو على صهوة حصانه، وأن يرحل المايسترو وهو ممسكٌ بعصا القيادة أمام الأوركسترا، وأن يرحل المعلّمُ وبين أنامله طبشورُ المعرفة يمنح علمَه لطلاب العلم، وأن يرحل المهندسُ وهو يرسمُ أجمل تصميماته، وأن يرحل العازفُ لامسًا أوتاره، وأن يرحل العالمُ فى معمله، وأن يرحل الفنانُ على خشبة المسرح، وأن يرحل الكاتبُ وهو قابضٌ على القلم، وأن يرحل الرسّامُ وريشته تضعُ اللمسات الأخيرة على آخر لوحاته. ولهذا لا ننسى المشهد العمدة فى فيلم «تايتانك» حين ظلَّ العازفون يعزفون موسيقاهم والسفينةُ تغرقُ دون أن يفكروا فى الهرب مع طلاب النجاة. هذا هو «الالتزام» الذى يمايزُ بين البشر. وقد عزف د. «هانى الناظر» السيمفونية الأجمل ورسم اللوحة الإنسانية الأجمل، التى ستظلُّ مشرقةً على صفحات العيون والقلوب فى مصر والعالم بأسره. وها هو نجله الصالح، الدكتور «محمد هانى الناظر» وقد حمل مشعل أبيه الساطع لكى يُكملَ المسيرة ويفتح صفحته للمشورة والعلاج المجانى.
لم ألتقِ بالراحل العظيم من قبل، لكننى عرفتُه وأحببتُه كما أحبَّه الملايين، ودعوتُ له بظهر الغيب كما دعا الملايين. لأن سيرة المرء وأفعاله هى «الوجود» الحقيقى والمعرفة الحقّة، فأنت تعرفُ الإنسانَ من أفعاله التى تحكى حدوتته الإنسانية وليس باللقاء الحقيقى والمصافحة. «يا أيتها النفسُ المطمئنة ارجعى إلى ربّك راضيةً مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى». اللهم أحسن مقامَ هذا الرجل الصالح، وأسكنه فردوسك العظيم، وامنح ذويه ومريديه الصبر الجميل والاحتساب، وعوّضنا عنه خيرًا. وأناشدُ الدولة المصرية إطلاق اسم «هانى الناظر» على أحد ميادين مصر، يتوسطه تمثالٌ أنيق له، حتى يكون نموذجًا طيبًا وقدوة حسنة لأطباء المستقبل.