بقلم - فاطمة ناعوت
أُجريت تجربةٌ عن تأثير الموسيقى على أدمغة ١٨ مستمعًا من مختلف المشارب والمستويات الثقافية، باستخدام «التخطيط الكهربائى للدماغ» (EEG) لقياس موجات النشاط الكهربائى فى المخ، وقت الإنصات للموسيقى. وأظهرت نتائجُ البحث أن الموسيقى تُنشِّط مناطقَ عديدةً فى المخ، وتعمل على تحفيز إفراز هرمون «الدوبامين»، وهو العنصرُ الكيميائى المسؤول عن الشعور بالسعادة. تتبع الباحثون نشاط الدماغ، باستخدام خوارزمية متخصصة، واكتشفوا أن هناك ٦ طرائق لتعزيز هرمون السعادة وتحفيز نشاط المخ والذاكرة، كانت «الموسيقى» على رأسها.
هل تصورتَ يومًا حياتنا كمصريين دون صوت: «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«عبدالحليم»، وموسيقى: «بليغ» و«الموجى» و«السنباطى» و«سيد درويش»، وكلمات: «شوقى» و«رامى» و«الأبنودى» و«جاهين»، وغيرهم من أهرامات مصرَ الفنية الشاهقة؟ هل بوسعنا تصوّر مصرَ دون بيانو «عمر خيرت» ونغمه؟ الشاهدُ أن بريقَ مصرَ الساطعَ، ليس وحسب فى إرثها الحضارى العريق الذى دوّخ علماءَ العالم بحثًا ودراساتٍ وتنقيبًا، ومازالوا كل يوم يكتشفون الجديد من كنوز علم المصريات، دون الوصول إلى مستقرّ، لكن ألقَها المتجدد يُشعُّ كذلك من بريق قواها الناعمة وأهراماتها الفنية التى يقفُ الموسيقار العالمى «عمر خيرت» على إحدى قممها الشواهق، تلك التى تمدُّنا بنسائم الأكسجين الذى يربطُنا بالحياة. ولهذا صار الحصولُ على مقعد خالٍ فى حفلاته من مشاقّ الحياة.
فى حفل الأمس بدار الأوبرا المصرية، كان لقاؤنا مع «عمر خيرت» ملكًا يجلس على عرش البيانو. وافتتح شلال النغم بالمقطوعة الخالدة «العرّافة والعطور الساحرة» التى استلهمها المايسترو من تسعة عطور شرقية وضعتها الباليرينا الكندية «ديانا كالنتى» فى تسع رقصاتِ باليه أدّتها على خشبة دار الأوبرا المصرية. وكانت الباليرينا قد طلبت من الموسيقار «عمر خيرت» أن يؤلف لها مقطوعة موسيقية تؤدى عليها رقصتها الخاصة. وظلت تنتظرُ شهورًا طويلة دون أمل. إلى أن حانت لحظةُ الإلهام واستلهم الموسيقارُ المصرى تلك المعزوفة الآسرة من شذى العطور الشرقية التسعة! وصارت تلك التوليفةُ العجيبةُ مادةً تُدرّسها أستاذةُ الباليه «ديانا كالنتى» لطلابها فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة: حول كيف «تتراسل الحواسُّ» فتنبتُ الموسيقى من بوتقة عطر الزهور!
هل تتصورون أن يشدو ١٢٠٠ شخص، بعدد مقاعد المسرح الكبير فى دولة الأوبرا المصرية، على موسيقى «عمر خيرت» وفى صوتٍ واحد كلمات «الحلاج» العظيمة التى لا يحفظُها إلا المثقفون الذين عاشوا حياتهم بين الكتب؟! ضجّت دولة الأوبرا المصرية بالأمس بكامل عدّتها وعتادها وفى صوت بشرى واحد مع النغم الفريد كلمات المتصوف الأكبر «الحلاج» يناجى ربَّه قائلا: «والله ما طلعَت شمسٌ ولا غرُبت/ إلا وحبّك مقرونٌ بأنفاسى/ ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم/ إلا وأنت حديثى بين جُلّاسى/ ولا ذكرتك محزونًا ولا فَرِحًا/ إلا وأنت بقلبى بين وسواسى/ ولا هممتُ بشرب الماء من عطش/ إلا رأيتُ خيالًا منك فى الكأس/ ولو قدرتُ على الإتيان جئتكمُ/ سعيًا على الوجه أو مشيًا على الرأس/ ويا فتى الحىّ إن غَنّيتَ لى طربًا/ فغَنّنى وأسفًا من قلبك القاسى/ ما لى وللناس كم يلحوننى سفهًا/ دينى لنفسى ودينُ الناس للناسِ». وتمضى المقطوعاتُ الآسرة التى لا تشبه إلا نفسَها، حتى يُختتمَ الحفلُ كالعادة بالخالدة «فيها حاجة حلوة» كلمات «أيمن بهجت قمر»، والتى شدوناها بقلوبنا وليس وحسب بحناجرنا على موسيقى «عمر خيرت» التى تدخلُ القلب والعقل قبل الآذان.
شكرًا للجميلتين: «منال محيى الدين» على «الهارْب»، و«نسمة عبدالعزيز» على الماريمبا، وجزيل الشكر لجميع الأساتذة الكبار فى أوركسترا «عمر خيرت» الغنىّ، ومدير الأوركسترا د. «خالد نعيم»، الذين يقدمون لنا «هرمون السعادة» عبرَ صدحِ أكسجين «عمر خيرت» لكى نتنفس؛ رغم غبار التلوّث السمعى الذى يحيط بنا كأرضٍ موحشة، مازالت تنمو الزهورُ من ثنايا صخورها كلما صادفت قطرة مطر عذبة، فتنكسفُ الحشائشُ السامة وتعود للاختباء فى جحورها. والشكر موصول لـ«دولة الأوبرا المصرية» العظيمة التى تقدّم لنا رفيع الفنون. وجزيل الشكر للباليرينا الجميلة د. «لمياء زايد» مدير دار الأوبرا المصرية على مواصلة رعاية الفنّ الرفيع الذى يجعلنا نحيا. ونعدُ أنفسنا بحفل باليه «الجمال النائم» الذى تقدمه فرقة باليه أوبرا القاهرة، وأوركسترا أوبرا القاهرة يوم الخميس ٩ مايو القادم بإذن الله؛ لكى نتأكد أن «مصر» بالفعل ودائمًا: «فيها حاجة حلوة».
--
ومن نُثار خواطرى:
■ ■ ■
(موسيقى)
يلزمُ تحذيرُ الورودْ
للاختباء وراء الأوراقْ
إذا ما مرَّ بالحديقةِ
رجلٌ
يحملُ قيثارتَه
ويتأهّبُ للنغم
ذاك أن الموسيقى
تجعلُ الزهورَ
يتحوّلن إلى راقصاتِ باليه
لن يكنَّ فى مأمن
من خطر عيون الغِلاظ
الذين لا يسمعون الموسيقى
ويأكلون لحومَ الحسناوات