بقلم - فاطمة ناعوت
فى جلساتى مع أصدقائى، يرنُّ هاتفى بنغمة «جفنُه علَّم الغزل» بصوته، ويصدحُ هاتفى الآخر بـ«حانةُ الأقدار»، بصوته أيضًا. ويعيد الأصدقاءُ سؤالى عن غرامى بصوته، وأعيدُ إجابتى: «صوتُه مثقف». أما فارسُ السينما الأنيق «أحمد مظهر» فقال عنه: «صوتُه فيه كرامة». لنا أن نتصوّر هذه المعادلة المدهشة حين تجتمع «الثقافةُ» مع «الكرامة»، فى صوت بشرى شجىّ مَنَّ اللهُ عليه بحلاوة فى الجواب والقرار عبر طبقات صوتية ثرية، لا نهاية لتنوّعها! إنه صوتُ الفنان الكبير «على الحجار» الذى هو «نَسْجٌ وحده»، مستحيلٌ أن تُخطئَه مع صوت آخر. جميلٌ صوتُه واستثنائىٌ إن غنّى أغنياته الخاصة التى يحفظُها «السمّيعةُ» فى أرجاء الوطن العربى، وفريدٌ صوتُه واستثنائىّ إن شدا بأغنياتٍ من تراثنا المصرىّ الفريد لعظام الطرب مثل «أم كلثوم، عبدالوهاب، محمد فوزى، سيد درويش» وغيرهم من صنّاع إرثنا الخالد.
لهذا كان ذلك التفاعل الجماهيرى الهائل الذى صاحب بانوراما الوطنيات الغنائية التى اختتم بها «على الحجار» حفلته فى «مهرجان محكى القلعة». حيث رفعت الجماهيرُ الشابّةُ أعلامَ مصر كما مظلّة ضخمة تتماوجُ على إيقاعات الموسيقى التى جُدلت فى فسيفساء فنية مدهشة من: «الله أكبر بسم الله، أحلف بسماها، وأنا على الربابة باغنى، خلّى السلاح صاحى، دولا مين، رافعين رايات النصر»، وغيرها من أغنيات انتصارات أكتوبر المجيدة.
ولأنه «مثقفٌ»، فنيًّا وفكريًّا، وتربى على يد موسوعة ثقافية بشرية هو الأب الموسيقار «إبراهيم الحجار»، فقد غُرست فى طفولته بذرةُ الفن الأصيل وتدرّبت أذناه على المقاماتِ اللحنية الصحيحة؛ فكان كلّما كَبُر يومًا استقرَّ فى وعيه أكثر أن تراثنا الفنى الثرىّ، لا يخبو جمالُه مع الوقت، ويستحق أن يُؤرَّخَ له ويُخلَّدَ ويتجدد مع مستحدثات التوزيعات الموسيقية الحديثة التى من شأنها أن تُكسبَ الأغنيات مذاقات جديدة تطفرُ بالجمال. كانت بداية الحُلم عام ١٩٨١ حين غنّى «دارى العيون» للعظيم المجدّد «محمد فوزى»، بتوزيع الموسيقار «ميشيل المصرى»، الذى وزعها برؤية معاصرة مع الحفاظ على روح اللحن الأصلى.
وانتشرت الأغنيةُ فى ثوبها «الحجارى» الجديد ضمن ألبوم «اعذرينى»، وباعت ٤ ملايين نسخة، وكان، ومازال، كثيرون يظنّون أنها من أصول أغنياته. لهذا يحرصُ «على الحجار» على ذكر اسم المؤلف والمُلحن والموزع قبل تقديم أى أغنية، وهدفه فى ذلك، ليس فقط التوثيق والحقوق الفكرية، بل حرصه كذلك على تثقيف الشباب فنيًّا وزيادة حصيلته التراثية، لكى يتعلّموا أن هذا العمل الفنى الجميل، أو ذاك، لا يُنسب وحسب إلى المطرب الذى يحبّونه، بل هو نتاج تضافر عبقريات صُنّاعه من الشعراء والموسيقيين والعازفين. هكذا يكون الفنانُ المُثقَّفُ المُثقِّف.
وفى حفل آخر عام ١٩٨٣ طلب «الحجّارُ» من الموسيقار «عماد الشارونى» عمل توزيع موسيقى جديد لأغنية عيد الميلاد «يا نور جديد» لمحمد فوزى، وعزفها أوركسترا من كونسرفاتوار وكورال الأوبرا، وحققت الأغنيةُ نجاحًا غير مسبوق ضمن ألبوم «متصدقيش». وتوالت التوزيعات الجديدة لأغنيات قديمة بصوت مصر الفريد «على الحجار»، ومنها «أهو ده اللى صار» لفنان الشعب «سيد درويش»، بتوزيع الموسيقار «ياسر عبدالرحمن»، والفاتنة «جفنه علَّم الغزل» للموسيقار «محمد عبدالوهاب» بتوزيع شبابى مدهش للموسيقار «مودى الإمام».
وفى التسعينيات سمح الموسيقارُ الخالد «محمد الموجى» للفنان المثقف «على الحجار» أن يُغنى رائعته «حانةُ الأقدار» بتوزيع ابنه الموسيقار «يحيى الموجى»، وكان الناتج سحرًا يفوق الخيال يصدحُ به هاتفى كلّما دقّ بابى. الجميل فيما سبق هو أن كل موزع ممن فصّلوا أثوابًا جديدة لتلك الأغنيات، قدموا رؤى ثرية سمحت للفنان «على الحجار» أن يغنيها بأسلوبه الفنىّ الخاص، دون تقليد ولا استنساخ.
لهذا غدت تلك الأغنياتُ «إضافة» حقيقية إلى مدونة الغناء العربى، وهو ما مهّد الأرض للحلم الفنى العظيم الذى اشتغل عليه الفنان «على الحجار» قرابة الربع قرن، وهو مشروع «١٠٠ سنة غُنا» الذى يستحقُّ أن يكون حلمًا قوميًّا تساعد على خروجه للنور وزارةُ الثقافة والهيئة الوطنية للإعلام وغيرهما من الجهات الوطنية المعنية بالفنون والتراث، لئلا يندثر تراثُنا المصرى الخالد.
فمثلما شيّد الفنانُ المصرى المعابدَ والأهرامَ والمسّلاتِ والجدارياتِ والتماثيل لكى يُسجل تاريخَ مصر وأحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية خلال عهود ملوكها وملكاتها، ونقش على جدرانها الآلات الموسيقية التى استلهمها العالمُ على مر العصور وصنع منها ما نعزف عليه اليوم موسيقانا، كذلك علينا أن نؤرخ لإرثنا الموسيقى المصرى الهائل ونحفظه ونعيد تقديمه برؤى عصرية حتى تظلَّ الأجيال المتعاقبة على دراية ووعى بما قدّم أجدادُهم من فرائد فنية رفيعة.
كل الاحترام للفنان المثقف «على الحجار» ومشروعه القومى العظيم «١٠٠ سنة غُنا»، الذى يستحق كامل الدعم. وفى مقال قادم سأقدم لكم تفاصيل فلسفة هذا المشروع كما رسمه الفنان «على الحجار».