بقلم : ابراهيم العريس
نعرف أن فيلم «الباب المفتوح» الذي حققه السينمائي هنري بركات في العام 1963 عن رواية قصيرة للطيفة الزيات، لم يحقق في عروضه الأولى تلك النجاحات التي يمكن أن نفترضها اليوم لفيلم من بطولة فاتن حمامة التي كانت حينذاك نجمة الشباك في طول العالم العربي وعرضه. صحيح أن كل ما في الفيلم كان يؤهله لأعلى درجات النجاح ولا سيما في وقت كانت فيه قضية المرأة مطروحة في مجتمع ثوري يبنيه عسكريّو ثورة 1952 بقوة وإلحاح محاولين الوقوف الى جانب المرأة ضد مجتمع الذكور، والى جانب الأجيال الشابة ضد مجتمع الآباء والأجداد... بل حتى الى جانب الطبقات المهمشة ضد جشع تجار المدن، بحسب أدبيات تلك الأيام. ومع هذا أخفق الفيلم وربما كانت خطّية حكايته وخلوها من المفاجآت السبب في ذلك. فأي جديد، يمكننا أن نتساءل اليوم، كان يمكن أن يحمله فيلم تدور حكايته من حول فتاة جامعية بالكاد سمح لها والدها بارتياد الجامعة فتجد نفسها وسط معمعة التظاهرات الوطنية والحركات الاحتجاجية التي تدفع والدها إذ يكتشف فعلتها، الى ضربها مانعاً إياها من تكرار الفعلة؟
> كان من الواضح أن الفيلم يتعاطف مع الفتاة. وكان هذا أمراً عادياً لا يحمل جديداً. لم يكن ثمة جديد على أية حال في بقية الحكاية: فالأخ فدائي يناضل في سبيل الوطن. وصديقه حسين يعجب ببطلتنا ليلى. لكن ليلى مخطوبة لابن خالتها برضى الأب الذي لم يكن ليستسيغ ارتباطها بحسين الذي سرعان ما يُقبض عليه مع شقيق ليلى قبيل ثورة 1952. لكن الثورة تقوم ويتبدل كل شيء بل تصبح ليلى قادرة على فك خطبتها بابن خالها ليتقدم منها أستاذ فلسفة سرعان ما يتبدى متسلطا كأبيها. ثم مع العدوان الثلاثي يعود حسين عبر رسائله ليعيد الروح اليها فيما كانت هي متوجهة بالقطار للتطوع في معارك القنال.
> لقد كان لافتاً في ذلك الحين، من خلال المقارنة بين الأفلام «النسائية» التي حققها صلاح أبو سيف عن روايات لإحسان عبد القدوس، ومن أبرزها «أنا حرة» و «الوسادة الخالية»، وفيلم «الباب المفتوح» الذي حققه «اليميني» هنري بركات، أنه فيما عبّر «اليساري التقدمي»- بلغة تلك الأيام- أبو سيف، عن الطبقات الوسطى وتطلع بناتها للحصول على قسط من الحرية ومكانة في المجتمع من منظور نسويّ مبكر، عبر بركات في فيلمه المقتبس عن رواية لليسارية المناضلة لطيفة الزيات، عن تطلعات أكثر تقدمية وانخراطاً اجتماعياً يدين كثيراً للفكر الماركسي في تجلياته الأكثر نقاء. والحال أن هذا لم يكن التناقض الوحيد الذي كان يمكن رصده في السينما المصرية الأكثر جدية في ذلك الحين، ولا بالطبع لدى هنري بركات الذي دائماً ما سوف تتسم سينماه، ولا سيما المواقف الفكرية التي تعبر عنها بقدر كبير من التناقض الذي قد يعجز أي تحليل عن سبره.
> مهما يكن، ثمة ثلاثة أمور أساسية تستوقف المرء في مسيرة هنري بركات السينمائية، أولها علاقته الفنية الطويلة الأمد بسيدة الشاشة المصرية فاتن حمامة التي لعبت الدور الأساسي في أكثر من عشرين فيلماً من أفلامه التي يصل عددها الى مئة فيلم؛ وثانيها انه اعتبر واحداً من أهم السينمائيين العرب الذين عبروا عن قضية المرأة المصرية بشكل خاص، من خلال أفلام أعطت المرأة الدور الرئيسي في حكايتها، بحيث انه في هذا المجال يكاد يقارن بالأميركي جورج كيوكر والياباني كنجي ميزوغوشي. أما الأمر الثالث فهو المرارة التي بات يشعر بها خلال الأعوام الأخيرة من حياته، وتحديداً خلال الفترة التي توقف فيها عن الإنتاج، وتواكبت مع حملة شنها عليه صحافيون أخذوا عليه انتماءه الديني وكونه من أصل غير مصري، هو الذي ولد في مصر وعاش فيها وحقق بعض أهم الأفلام التي عبرت عن حياتها وحياة أهلها. واذا اعتبرنا ان هنري بركات يكاد يتفرد بين المخرجين المصريين بكونه كان الأكثر تعبيراً، في فيلمين على الأقل من أفلامه، عن حياة الريف المصرية، والأكثر تعبيراً كذلك عن التقدم الاجتماعي للشرائح الاجتماعية التي وفرت لها ثورة 1952 مجالات مدهشة للتقدم الاجتماعي، سيدهشنا ذلك الموقف ويشعرنا بالمرارة التي أحس بها هنري بركات يوم كان على أعتاب شيخوخته، في عمر يقدم فيه لأمثاله كل تكريم كواحد من معالم الحياة الوطنية.
> الفيلمان اللذان نعنيهما هنا، هما بالطبع «الحرام» عن رواية يوسف ادريس، و «دعاء الكروان» عن رواية طه حسين. والفيلمان - وليس الأمر صدفة بالطبع - هما من بطولة فاتن حمامة، ويقفان بقوة - متفاوتة الدلالة على اي حال - الى جانب المرأة ضد ظلم المجتمع لها، وعدم فهمه دوافعها وتصرفاتها، كما الحال تماماً مع «الباب المفتوح» الذي قد يتميز عنهما بكون امرأته تعرف كيف تقاوم على عكس امرأتي «الحرام» و «دعاء الكروان» اللتين تبدوان أكثر ميلاً للاستسلام. ولقد قيل دائماً ان هنري بركات الذي رحل عن عالمنا في العام 1997 عن عمر يناهز الثالثة والثمانين لو لم يحقق غير «الحرام» و «دعاء الكروان»، إضافة الى «الباب المفتوح» و «في بيتنا رجل»، لكان له في ذلك كل المجد، حيث ان الفيلمين الأولين يتم اختيارهما دائماً بين أحسن عشرين فيلماً عربياً، في معظم الاستفتاءات التي تدور حول هذا الأمر، فيما حظي الآخران بإعجاب شعبي عام.
> لكن هنري بركات، لحسن حظ محبي السينما، حقق ما مجموعه 93 فيلماً، وفق أكثر الإحصاءات دقة، على مدى 45 عاماً، اي بمعدل فيلمين في العام، وبهذا يبدو الأكثر خصوبة وعطاء بين المخرجين المصريين الذين يتعامل معهم النقد العربي بجدية، ويصنفون ضمن خانة مخرجي الواقعية، ومنهم الى جانب هنري بركات، يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ وتوفيق صالح، هؤلاء الذين يشكلون التيار الذي مهد لانبعاث السينما العربية الجديدة.
> صحيح أن لغة بركات السينمائية قد لا تكون على الجودة والمكانة اللتين كان بالإمكان توقعهما منه، لكن الرجل له في رصيده من الأفلام الجيدة ما يغطي، بالطبع، على أفلامه الأقل جودة والتي كان يحققها لمجرد كسب العيش، هو الذي كان يقول ان الإخراج السينمائي مهنته الوحيدة التي يعيش منها، لذلك لا يمكنه ان ينتظر منه دائماً مشاريع جدية ترضي النقاد والنخبة. ومن هنا فإن الذي حقق «الحرام» هو هو الذي حقق «العسكري شبراوي» و «نوارة والوحش» ونحو دزينتين من أفلام لا أهمية لها على الإطلاق. بيد ان تاريخ الفن السينمائي، اذ ينسى تلك «السقطات» سيظل يذكر أفلاماً مثل «الخيط الرفيع» و «الحب الضائع» و «سفر برلك» في لبنان من بطولة فيروز و «شيء في حياتي» و «الباب المفتوح» و «في بيتنا رجل» و «حسن ونعيمة» الخ... تماماً كما ان تاريخ الأفلام الغنائية سيذكر من بين إنتاجات هنري بركات، أجمل افلام فريد الاطرش مثل «ماتقولش لحد» و «يوم بلا غد» و «لحن الخلود» وفيلمين له اقل جودة وإن كانا أثارا الضجة من حوله في سنوات نشاطه الاخيرة «أفواه وأرانب» و «ليلة القبض على فاطمة».
> ولد هنري بركات في القاهرة في العام 1914، وفي القاهرة نفسها تلقى دراسته الثانوية والجامعية حيث تخرج بإجازة في الحقوق، لكنه سرعان ما قرر ان يتجه للعمل الفني، فكان اول لقاء له مع السينما حين شارك أخاه في إنتاج فيلم «السيد عنتر» من إخراج استيفان روستي وكان ذلك في العام 1935. بعد ذلك كانت رحلته الى باريس حيث شاهد اكبر عدد ممكن من الافلام، وعاد منها وقد اقتنع بأن السينما ستكون مهنته، والإخراج تخصصه، لذلك قرر القيام بخطوات ضرورية متتالية فتدرب على التوليف في فيلم «انتصار الشباب» من إخراج أحمد بدرخان، ثم عمل مساعد اخراج مع أحمد جلال وحسين فوزي وأحمد كامل مرسي. وما إن حل العام 1941 حتى بدأ يخوض مغامرة الإخراج بفيلمه الأول «الشريد». ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن العمل السينمائي، مقدماً أفلاماً مقتبسة في معظم الأحيان من أعمال أدبية اجتماعية، هو الذي كان فيلمه الأول مقتبساً من قصة لأنطون تشيخوف. ولئن كان بركات بدأ مع «الشريد»، فإنه أنهى حياته السينمائية مع فيلم «تحقيق مع مواطنة» الذي اعتزل بعده العمل السينمائي، اثر خلاف مع منتجه أوقعه هو الآخر في مرارة، ظلت ترافقه حتى أيامه الأخيرة. ونذكر أخيراً ان بركات حقق عدداً من أفلامه في لبنان، منها فيلمان من بطولة فيروز.
نقلا عن الحياه اللندنية