انطلاقاً من رصد دقيق ومكثف للطريقة التي بها قام الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال بتجواله في مدينة بيروت أواسط القرن التاسع عشر، يرسم الباحث الفرنسي دومنيك شيفالييه بعض العلامات على مسار التطور العمراني الذي طاول المدن العربية (وبيروت تستخدم هنا نموذجاً لها ورمزاً) خلال القرن ونصف القرن السابقين. وهذا البحث الذي يحمل توقيع شيفالييه الذي كان يعتبر في حينه واحداً من كبار دارسي المدن العربية، هو عبارة عن مداخلة ألقاها هذا الباحث الفرنسي، في العام 1971 أمام العديد من الباحثين المهتمين بالشرق الأدنى وبالتطور السكاني والعمراني فيه...
> ينطلق شيفالييه في مداخلته من التساؤل عما إذا كان من الممكن، التعرف إلى بنية متماسكة للمدينة العربية التقليدية انطلاقاً من التنظيم والتجربة الاجتماعيين لسكانها. ويرى شيفالييه أن هذا السؤال إذ يطرح على هذا النحو من الصياغة «من شأنه أن يبدو اليوم عادياً بما فيه الكفاية». ومع هذا، فإن «تفسير هذه المدينة وهذا المجتمع قد تبدى على الدوام فاشلاً، حين كان ينظر اليه انطلاقاً من ردود فعلنا وتأملاتنا الذهنية. بل ويمكن القول إن المستشرقين النبيهين الذين عملت أشغالهم دائماً على تقدم المعرفة، كانوا على الدوام ضالين في تفسيراتهم». ويستطرد شيفالييه قائلاً: «لنأخذ أولاً هنا، على سبيل المثل، شهادة من الواضح أن قيمتها الأدبية ومقدار حساسيتها، يساعداننا على فهم هذه الالتباسية. والشهادة التي نعنيها هي شهادة جيرار دي نرفال التي تعود، تحديداً، الى الحقبة التي كان فيها الشرق الأوسط قد بدأ يضخع لتأثيرات اختراع الغرب له».
> يقول الباحث الفرنسي: من جولته التي قام بها في بيروت في العام 1843، ترك لنا مؤلف كتاب «رحلة في الشرق» وصفاً مميزاً للمدينة العربية منظوراً اليها من منظار أوروبي معين. آنذاك كانت بيروت محصورة داخل حوضها: وكان طرازها هو طراز مدن الشرق الأدنى الأخرى، بما فيها من مساجد (وكنائس) وأسواق وخانات ومنازل تنغلق على فننها وتتجمع في أحياء... إضافة الى قلعتها. أما المار الغريب الذي يتجول فيها مشياً على قدميه، فكان بإمكانه أن يعبرها مجتازاً أسواقها، وماراً في أزقتها الطويلة، بالقرب من أسوار يلاحظ فيها فتحات محمية اجل، لكنها غير ذات واجهات.
> في نصه يروي لنا جيرار دي نرفال مسيرة تنطلق من المدخل الغربي للمدينة، وتقوده عبر الأسواق حتى مركزها – أي مركز المدينة – الذي يميزه مسجد المدينة الكبير، ومن هناك يتحدر نحو المرفأ. وهو خلال جولته يقارن المنازل «بالقلاع»، ويقول إن هندسة تلك المنازل تشعره بالنفور أو بالأحرى تدفعه الى خارجها. وإذ يشعر بنفسه منبوذاً، لا يجد أمامه سوى الأسواق تستقبله، لكنها تخفي عن ناظريه في الوقت نفسه قطاعها السكني. وهنا، يسجل دي نرفال زحام الحركة والألوان والأشكال التقليدية؛ ونراه يشتري... ويمر... لكنه لا يدخل أبداً الى أي مكان.
> إن جيرار دي نرفال لا يخفي علينا استعجاله للوصول الى مكان منفتح يكون الوصول اليه أمراً في متناول يده: المرفأ. وهو حين يصل الى ذلك المرفأ، نلاحظ كيف أن رد فعله إنما يسفر عن قدر كبير من الإعجاب.
> بيد أن معظم ما يصفه لنا الرحالة إنما هو أشياء سبقت قراءتها ورؤيتها. بمعنى أن هذا الرسم الذي يصوره لنا دي نرفال ينضاف الى مجموعة وفيرة القطع. ونظرته وتخيله يتبعان موضوعة فنية وأدبية! ومعنى هذا أن لقاءه مع حضارة أخرى، في مكان حقيقي، يتكون تبعاً لمسيرة مشتركة (ومن هنا فإن شهادته تكون ذات قيمة أكبر من المعتاد بكثير).
> والحال أن انبهار دي نرفال الذي ينتج من الوصول الى المرفأ، وظهور النور والحيّز الفسيح المتجلي إثر الخروج من زقاق ما، والوقوف أمام منظور عريض جداً تنتظم فيه المخططات، بدلاً من التنقل بين تفاصيل سوق معينة تخفي عنه المدينة، إن هذا كله يأتي ليكشف لنا عن الفوارق بين منظومتين ثقافيتين، انطلاقاً من النظرة التي يلقيها جيرار دي نرفال. ومع هذا، فإن ذكاء وحذق دي نرفال يكمنان، بحسب شيفالييه دائماً، في كونه لا يعمد إلى وصف مسيرته انطلاقاً من المرفأ الى الداخل – أي داخل المدينة – أي باتجاه الخط المسدود (أي باتجاه زقاق حقيقي لا منفذ له في حي ما، زقاق يشكل طريقاً مسدوداً في وجه المعرفة كذلك)؛ فبالاتجاه الذي يختاره، يترك لنا دي نرفال مجالاً للإيمان بعكس ما يكتشفه، بينما نراه في الحقيقة لا يكتشف إلا منظوراً تشكل تبعاً لتشكل الرسم الغربي، بدلاً من أن يكتشف ما بقي محجوباً عنه في المدينة ليروح واصفاً حياة المدينة وشكلها.
> إذتً كيف يمكن تمييز السمات الأصلية؟ كيف يمكن تفسير تلك السمات؟ هنا يأتي تأويل شيفالييه قائلاً: إن المدن العربية في الشرق الأدنى المتوسطي، على الشكل الذي لامسها فيه التوسع الأوروبي في القرن التاسع عشر، كانت تسوى على الدوام تبعاً لبنية خاصة حلت، من بعد الفتح الإسلامي، محل بنية المدن القديمة ذات التشكل الإغريقي أو الروماني. والحال أن تلك المدن كان عليها منذ البداية أن تتلاءم مع متطلبات تنظيم آخر غير التنظيم الذي كان لها، وتماسك وسلوك آخرين يميزان المجموعات البشرية الجديدة التي باتت تقيم فيها الآن. وهذه المجموعات حدث لها أن جُسِّد تمفصلها مع بعضها البعض ضمن شبكة من المنغلقات المتلاصقة التي تشكلها المنازل والأحياء، والمراكز التجارية وأماكن العبادة. والواقع أن هذا الحلول في المكان، الذي يستعيد ويعيد تشغيل النزعات القديمة لدى شعوب الشرق الأدنى السامية، سواء أكان ذلك في ما يختص بالمخططات أو بالأحجام، تمكن من التعبير – كذلك – عن جمالية جديدة. ولقد كان هذا التحول الرئيسي واحداً من شروط ازدهار وديمومة الحضارة الأصيلة دائماً.
> بنتيجة هذا كله نجد، مع شيفالييه وبالاستناد الى تجربة دي نرفال، أن توزّع ووجود المدينة العربية يرتبطان ببنية المجتمع الذي يقطن تلك المدينة. وهذا المجتمع يتألف عادة من تجمع كبير لمجموعات ثانوية. وفي الأساس كان تشكل تلك المجموعات محدداً بنظام أصيل ينبع من الروابط العائلية التي قامت بدورها على أساس تفضيل الزواج من أقارب الأبوين، مما ضمن بالتالي انطواء الأفخاذ على بعضها البعض. ولقد أدى هذا النظام الى تشكل سلاسل من الجماعات المنغلقة على بعضها البعض، والتي تعيش متلاصقة واحدتها مع الأخرى.
> ولكي يشعر المرء بأنه مندمج في كيان اجتماعي، يكون من الضروري له أن يتمكن من تقديم مستنده او مرجعه العائلي، الذي يتم التعبير عنه عادة باسم الأب، وبخط سلالي أبوي يصل صعوداً في الزمان حتى جدّ قد تكون له مسحة اسطورية، جدّ يكون مشتركاً بين أبناء الفخذ العائلي جميعاً. أضف الى هذا ان الفرد يحدد نفسه في علاقته مع الآخر انطلاقاً من أن وجوده الاجتماعي لم يتحدد إلا في داخل المجموعات المنغلقة على بعضها، وبالنسبة الى تلاصق تلك الجماعات مع بعضها البعض. وهو انطلاقاً من هنا يشعر بنفسه على الدوام في تعارض مع آخر ما... وهذا الكلام نفسه، ينطبق على الجماعات. وتقوم بين هذه المجموعات العائلية المنغلقة والمتلاصقة علاقات جوار واستزلام وتحالف. ومن هنا تتشكل تراتبية اجتماعية بين المجموعات العائلية، تراتبية تتحقق في غالب الأمر انطلاقاً من السلطة التي تمارس بفضل قدرة صاحبها الاقتصادية والإدارية والقضائية. بيد ان التجمعات المتضامنة تظل على الدوام غير مستقرة وموقتة، لأنه تظل هناك على الدوام بين المجموعات صراعات ونزاعات تنتج من طابع البنية الاجتماعية نفسه. وفي سبيل محاولة تجاوز الانشقاق والانغلاق بين المجموعات المتعارضة، هناك لدى الشعوب العربية، وكما ينقل شيفالييه عن دي نرفال، حنين دائم الى الاتحاد والتوحد. ولقد تم تصور هذا الاتحاد، في مستواه الأعلى، ضمن إطار الإجماع الطائفي. وهكذا ننطلق من الانطواء العائلي الى نوع من التصور الشمّال من طريق اللجوء الى روحانية مشتركة. ومع هذا فإن انجاز الوحدة، في مثالها الأعلى وحتى داخل البلد الواحد، ظل أمراً محدوداً جداً، وذلك لأن المجتمع كان منقسماً الى عدة جماعات دينية تعايشت، ولكن تبعاً لقواعد عامة للعلائق بين الجماعات. وهكذا، وحتى إصلاحات القرن التاسع عشر، تجابهت الدولة العثمانية مع تقاليد الضيافة/ الحماية، التي تمنح عادة للمسيحيين ولليهود الذين يعيشون في ديار السلام ويقبلون به، كما ان كل طائفة، عاشت بدورها ضمن تجمع للجماعات، عرفت كيف تستفيد من وضعية خاصة بها.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع