بقلم : ابراهيم العريس
من يزور وسط باريس، ومن بعد ذلك إلى حد ما وسط مدينة القاهرة، ويكتشف في العاصمة الفرنسية أن واحداً من أفخم وأجمل شوارعها يحمل اسم «هوسمان» ثم تقول له الكتب السياحية كما الكتب التاريخية، إن تلك المنطقة البديعة من وسط باريس تعزى كلها، هندسياً وتاريخياً، إلى هوسمان هذا نفسه بحيث صار اسمه علامة على حقبة هندسية كاملة، تعزى إليها كذلك عمرنة الوسط التجاري القاهري الذي كان الغبار والتفتت واليافطات المتراكة على جدرانه بالألوف تتآكله، فيقال «العمرنة الهوسمانية»، هذا الزائر سيخيّل إليه أن هوسمان المذكور هو مهندس معماري ظهر خلال النصف الثاني من القرن العشرين ليبني باريس الجديدة ومن ثم يُستعان به في عهد الخديوي إسماعيل في مصر كي يبني القاهرة الحديثة. بيد أن هذا كله ليس دقيقاً.
> فهوسمان الذي يحمل كل ذلك العمران اسمه لم يكن مهندساً ولا عمرانياً. بل كان رجل دولة لا أكثر ولا أقل. رجل دولة كان هو على أي حال من وقف وراء النهضة العمرانية التي أسبغت على باريس تجديداً وعصرنة لا يزالان يعتبران حتى اليوم من أهم التجديدات العمرانية التي طاولتها. والحقيقة أن تلك الجهود التي بذلها هوسمان ودفع ثمنها غالياً كما سنرى، كانت ولا تزال حافزاً لضمّه إلى قائمة كبار «البنّائين» في التاريخ المعاصر، هو الذي في حمايته لأحلامه العمرانية واختياراته للأساليب التي كانت تعرض عليه ودفاعه هنا، قد يكون له نظيران في التاريخ العربي الحديث: أولهما في مصر، علي مبارك باشا - الذي كان كاتباً، لا عمرانياً، لكنه وقف وراء بناء القاهرة الحديثة كرجل دولة، ثم نظّر لتلك المدينة وأرّخ لعمرانها في كتابه الموسوعي «الخطط التوفيقية» بحيث تعزى إليه نهضة مصر بما في ذلك الجانب منها الذي ارتبط بهوسمان نفسه-، والثاني الراحل رفيق الحريري في لبنان الذي كان بدوره رجل دولة قام بإعادة إعمار بيروت ولبنان بعدما دمرتهما الحروب الأهلية، وحروب الآخرين، من دون أن يكون هو الآخر مهندساً عمرانياً. لقد عمّر هؤلاء الثلاثة فاعتبروا «بنّائين» كباراً من دون أن يكونوا عمرانيين.
> مهما يكن، يبقى هوسمان واحداً من أكبر رؤيويي بناء المدن في الأزمنة الحديثة. لكن حكاية حياته تبقى في المقابل مثلاً للجحود في أعلى درجاته. فلئن كان أعداء رفيق الحريري وأعداء أي محاولة لبناء أو إعادة بناء لبنان قد جعلوا خاتمة حياة الحريري فجائعية، فإن السنوات الأخيرة والتي تلت إنجاز هوسمان مشاريعه العمرانية الهائلة جعلت من خاتمته، خاتمة كئيبة مظلمة أمضاها وحيداً منسياً يتأمل بما فعل لوطنه وما فعل به أهل ذلك الوطن.
> وما فعله هوسمان لوطنه كان كبيراً قَلَب صورة باريس كلها. سحبها من الوحل الذي كانت أحياء وسطها تعيش محاطة به، ومن التراكم الريفي الذي كان يطغى عليها ويخلط بين الناس والنفايات، بين أسواق الخضار واللحوم والمصانع التي تنتج شتى البضائع الفخمة التي كان الناس في الخارج يُقبلون على شرائها بأغلى الأسعار من دون أن يفكروا بتخلّف المناطق التي أقيمت فيها مصانعها، ومن دون أن يتنبهوا إلى أن ثمة في الوقت نفسه في باريس مواطناً رؤيويّاً أدرك باكراً أن ثمة في المدينة التي يحب، أحياء بكاملها ينبغي أن تزول من الوجود عند مفتتح العصور الحديثة. والحقيقة أن ثمة حكاية واقعية يتعين على القارئ معرفتها لإدراك البعد الذاتي في سيرة هوسمان. فهو الذي وُلد عام 1809 في شارع «فوبور دي رول» الباريسي في بيت ينتمي إلى شريحة عليا في المجتمع، سيكون منطلقه إلى التغييرات العمرانية الكبرى التي سيشتغل عليها في المدينة، شعوره منذ كان فتيّاً بأن بيت أهله نفسه لم يعد يتطابق مع العصور الجديدة التي بدأت تطل على باريس. ومن هنا، وإذ أضمر تلك الفكرة في نفسه، سيكون بيته، ومن دون أي ندم أو ضغينة، واحداً من أول البيوت التي سيأمر بهدمها حين آلت إليه مقاليد السلطة لاحقاً كمحافظ لمدينة باريس وقد انخرط في المشروع العمراني المنشود.
> مهما يكن من أمر، حتى ولو كان بيت أسرة هوسمان عتيقاً وبدأ هو مشاريعه العمرانية بهدمه، فإن جورج أوجين هوسمان لم يكن متحدراً من أسرة متواضعة، بل من بيت كريم وباريسي عريق حيث كان آباء وجدود الفتى من ضباط نابوليون ومن النواب في المجلس التشريعي ومن أصحاب السلطة في بلدية المدينة. وكانت تلك سلطة آلت إليه بعدما تنقل بين عدد من الوظائف الإدارية والعسكرية، كما بين إدارات المحافظات في عدد لا يستهان به من المناطق، فبات على التوالي مساعد محافظ للجيروند ثم محافظاً على التوالي لمنطقة الليون ثم الجيروند فإلى منطقة فار - دراغينيان.
> وفي ذلك الحين كنا قد وصلنا إلى أواسط القرن التاسع عشر وكانت التقلبات السياسية قد أبعدت لويس نابوليون بونابرت إلى المنفى في إنكلترا، وهناك قُيّض لهذا الإمبراطور المتنور أن يتعمق في مشاهدة ودراسة عمران وسط لندن الذي أدهشه حقاً. ثم لاحقاً حين درس كيف احترقت العاصمة الإنكليزية عام 1666 وأُعيد بناؤها كلياً مع تحديث بناها التحتية الصحية والخدماتية في شكل جذري، زاد إعجاب المسؤول الفرنسي المنفي بما حدث لدى الجيران وكيف أعادوا يناء «عاصمة الضباب» في شكل بادي الحداثة والأناقة. فكان من الطبيعي إزاء ذلك أن يرغب الإمبراطور في أن يجعل باريس، على غرار لندن، مدينة مرجعية في مجال العمران والبنى التحتية، فوجد نفسه في هذا المجال يلتقي بنظرته التحديثية الرؤيوية مع البارون هوسمان الذي باتت له في المرحلة التالية، مرحلة ما بعد منفى الإمبراطور، اليد الطولى في الشؤون الإدارية. وهكذا من الالتقاء بين رؤيتين متقاربتين، راحت تولد بالتدريج تلك المشاريع الضخمة التي راح هوسمان ينفذها، وغالباً على الضد من أفكار واعتراضات أعداد كبيرة من الطفيليين وأصحاب المصالح المتناقضة. والحقيقة أننا إن كنا هنا نتوقف عند هذا الأمر، لا بد من التطلّع إلى الناحية الأخرى، الجانب الذي يمكن وصفه بـ «المظلم» في مشروع هوسمان: فالرجل كان قد لاحظ خلال صياغته مشاريعه أن اكتظاظ وسط باريس بالسكان الفقراء وضيق الأزقة والشوارع فيها والبؤس المستشري من حول المصانع والمؤسسات القائمة وسط المدينة، كان هو ما ساعد على تحريك كل أولئك البائسين في ثورتي عامي 1846 - 1847، وفكر أنه لا بد من أن يدفع أولئك، بعدما هُزمت ثوراتهم، إلى خارج وسط باريس حيث يتشتتون ولا يعود في إمكانهم «غزو» المدينة بمطالبهم. هنا من دون أن نزعم أن هوسمان جعل كل مشروعه ينطلق من مثل هذه الرغبة السياسية «الظالمة» في رأي كثر من مناوئيه، يمكننا أن نفهم هذا الجزء من حراكه الذي بات يشكل منذ ذلك الحين واحداً من المفاهيم التي تطاول الحراك الثوري داخل المدن، حيث بات مفهوماً أن الثورة، أي ثورة، لكي تنتصر، لا بد أن تنطلق من وسط المدينة لا من ريفها، ومن حيث يتجمع أصحاب المصلحة في الثورة: العمال والمثقفون والبروليتاريون، بل حتى أبناء الشرائح الدنيا في الطبقات المتوسطة. والحقيقة أن هذه النوايا السياسية التي لا شك كانت في خلفية رؤيوية هوسمان، ولو جزئياً، كانت جزءاً من المآخذ الرئيسة التي سكبت ماء في طاحونة مناوئيه وكانوا كثراً. وعلى هذا النحو، في الوقت الذي كان يحقق مشاريعه ويغيّر صورة باريس، وربما بالتالي، صورة هندسة المدن في العالم أجمع، راحت الانتقادات والمعارك ضده تتفاقم، بخاصة أن عدداً كبيراً من المثقفين التقدميين راحوا يضمون أصواتهم إلى أصوات أعدائه، ومن بينهم كبار من طينة إرنست رينان. ناهيك بأن مصطلح «الهوسمانية» راح يستخدم أول الأمر، ليس بمعناه العمراني، بل بمعنى يفيد البناء من طريق الهدم.
> وهكذا راح البارون هوسمان يشاكَس بقوة وازدادت شراسة المعارك والاتهامات ضده. بل إنه أقيل من وظيفته الكبيرة كمحافظ ومسؤول عن تحديث العاصمة، ولا سيما حين أصدر خصمه السياسي جول فيري كتيباً سمّاه «حكايات هوسمان الخرافية» على وزن «حكايات هوفمان الخرافية». وكانت النتيجة أن أزيح من مناصبه جميعاً قبل شهور من إزاحة حاميه نابوليون الثالث. ثم أزيح تماماً عن العمل السياسي حتى حين انتخب نائباً بونابرتياً عن كورسيكا، فانصرف لكتابة مذكراته ليموت أخيراً عام 1891 في باريس. فتبدأ بالحياة من جديد أسطورته بوصفه الرجل الذي أعاد إعمار عاصمة النور.
نقلا عن الحياه اللندنيه