بقلم : ابراهيم العريس
قد لا يكون فيلم «لا أنام» الذي حققه صلاح أبو سيف عن رواية تحمل توقيع إحسان عبدالقدوس، واحداً من أفضل أفلام هذا المخرج الذي سيعرف دائماً، من ناحية بلقب «فنان الشعب»، ومن ناحية ثانية بكونه «مخرج أفلام الحارة»، لكنه بالتأكيد واحد من أفلامه التي حققت القدر الأكبر من النجاح التجاري في تاريخ هذا الفنان. فبعد كل شيء، نعرف أن أفلام أبو سيف الأقوى والتي نفضلها عن كل ما حققه في تاريخه الطويل من أفلام، هي تلك التي اقتبسها له نجيب محفوظ - ككاتب للسيناريو وليس كروائي - طوال مجرى سنوات الخمسين من القرن العشرين، من: «الفتوة» الى «لك يوم يا ظالم» الى «شباب امرأة»، عن فكرة لأمين يوسف غرابة، عاد هذا بعد الفيلم وحوّلها الى رواية منشورة... وتلي ذلك بضعة أفلام قليلة العدد بالتأكيد، اقتبسها أبو سيف عن روايات لمحفوظ ( «القاهرة 30» و»بداية ونهاية» مثلاً). ثم في المركز الثالث من الأهمية الجمالية والفكرية، تأتي تلك الأفلام التي حققها أبو سيف عن روايات لعبدالقدوس، كتب محفوظ سيناريواتها، من دون تردد حتى وإن كنا نعرف عدم انتماء الروايات التي أُخذت عنها الى أنواع محفوظ المفضلة. ومع هذا، يمكن القول أن الأفلام «القدوسية» يمكن اعتبارها من الناحية السوسيولوجية على الأقل، أهم ما قدمه صلاح أبو سيف في مساره المهني، والأكثر تمثيلاً للزمن الذي وُلدت فيه وتمكنت من أن تغيّره.
> وكي لا يبدو هذا الحكم مستغرباً، سنتناول أبعاده بعد سطور، وريثما نكون قد توقفنا عند «لا أنام» تحديداً. أما ما يتوجب قوله في المقام الأول في هذا الصدد، ففحواه أنه إن لم يكن واضحاً أن هذا الفيلم مأخوذ بشكل موارب عن إحدى روايات الفرنسية فرانسواز ساغان، فإن أقل ما يمكن أن يقال أنه يمتّ، من ناحية موضوعه وشخصياته، بصلة قرابة واضحة مع روايات هذه الكاتبة. غير أنه في الوقت نفسه، يشبه الى حد التطابق مواضيع عبدالقدوس التي كان قد سبق لصلاح أبو سيف أن عالجها في مرحلته التي سنسمّيها هنا مرحلة سينماه «البورجوازية الصغيرة»، والتي غالباً ما كان نجيب محفوظ يكتب له سيناريواتها. و»لا أنام» يمكن النظر إليه على أية حال، على أنه يشكل الذروة في ذلك النوع السينمائي الذي شكل واحدة من أخصب مراحل أبو سيف. كما أن كثراً لن ينسوا أبداً أداء فاتن حمامة «الشرير» والاستثنائي في فيلم ما كان من شأن تلك الفتاة دائمة الطيبة على الشاشة أن تقبل بتمثيله لولا إقناع صلاح أبو سيف لها.
> في الفيلم تؤدي فاتن حمامة دور «نادية»، التي تعيش مع أبيها الثري بعدما انفصل هذا عن أمها وتولى هو تربيتها، فتعلقت به تعلقاً يكاد يكون أوديبياً - لكن نقاداً قلائل فقط، من بينهم الراحل غالي شكري، أدركوا حينها هذا البعد الذي قد يمكننا القول إن عبدالقدوس استقاه من رواية ساغان دون أن يعوّل كثيراً على تفحصّه، حتى وإن كان التحليل النفسي سيبقى هاجساً لديه وصولاً الى زدواج الشخصية كما قدمه لاحقاً في «بئر الحرمان» - لكن هذا العمل الذي تحقق سينمائياً بدوره، كان مقتبساً من نصّ أميركي غير روائيّ، بيد أن هذا ليس موضوعنا هنا طبعاً -. ونعود الى «لا أنام» لنذكر أن والد ناديا انتظر بلوغها السادسة عشرة قبل أن يخرجها من المدرسة الداخلية ويخبرها أنه تزوج هذه المرة لأنه يريد سيدة في بيته ترعاها وتهتم بأمورها. وواضح هنا، أن نادية لم تستسغ كثيراً ما حدث، غير أن غيرتها الصامتة التي تحركت لديها أول الأمر، سرعان ما تحولت الى تمزّق وصراع في داخلها، بخاصة حين اكتشفت أن أباها ليس الوحيد المعجب بالزوجة الجديدة وبكياستها وجمالها، بل إن كل الآخرين معجبون بها أيضاً. ومن هنا، يتحول القبول على مضض الى عداء شديد، وتبدأ الصبية بحياكة المؤامرات والمناورات ضد الزوجة، وصولاً الى تدبير خطة «تثبت» أن زوجة الأب على علاقة مع شقيق هذا الأخير الذي يقيم معهم في البيت نفسه. يستبد الغضب بالأب الذي يصدق افتراءات ابنته ويطرد أخاه والزوجة. غير أن هذا كله يثقل على قلب نادية، فيما ينصرف أبوها الى معاقرة الخمر.
> لاحقاً، للتخفيف من وطأة الحدث، تصطحب نادية أباها الى المصيف حيث تعرّفه الى صديقة لها وتقرّب بينهما - وليلاحظ القارئ هنا، أن هذا السياق الحدثي يكاد يكون هو نفسه سياق رواية فرانسواز ساغان «صباح الخير أيها الحزن» التي ظهرت كالحدث الصاخب في الحياة الأدبية والاجتماعية الفرنسية قبل ذلك بفترة يسيرة! -. لكن المشكلة هذه المرة سرعان ما تبدو أكبر: يرتبط الأب بالصديقة، لكن نادية تكتشف أن هذه الصديقة، مستهترة وغير وفية للرجل الذي اختارها الآن واقترن بها. لكن ما العمل ونادية لم تعد قادرة على تكرار ما فعلت من افتراء في المرة السابقة؟... لا يسعها أمام حيرتها هنا، إلا أن تلجأ الى عمها كاشفة له عن الحقيقة كي يتدخل، لا سيما أن «خطيبة» الأب أتت معها الى المنزل بعشيقها الذي يريد الزواج بنادية كي يستمر في العيش هنا قرب عشيقته والتمتع بثروة الأب. وبالفعل، ينتهي الأمر بتدخل العم، لكن نادية تحترق وهي في ثوب الزفاف نتيجة سقوط شمعة يوم عقد قرانها. وتنقل مشوهة الى المستشفى وهي تعترف بكل ما فعلت.
> كان قاسياً في حينه هذا الفيلم، لا سيما على فاتن حمامة نفسها، التي لم تكن معتادة على مثل هذا النوع من الأدوار. ومع هذا، اعتبر الفيلم من الجمهور والنقاد نموذجاً جيداً على سينما «أخلاقية» تكاد تكون وعظية، وهو أمر يفرّق بالتأكيد بين مغزى عمل إحسان عبدالقدوس وذاك الذي يحكم رواية فرانسواز ساغان. ومها يكن هنا، فإن «لا أنام» كشف أكثر من هذا، عن قدرة صلاح أبو سيف على رسم الأبعاد السيكولوجية لشخصياته. بل ربما يصح القول في هذا السياق، أن «لا أنام» كان واحداً من أول الأفلام الاجتماعية المصرية التي وصل فيها التعمق في سبر روح الشخصيات ودوافعها في تصرفاتها الى ذلك المستوى المتميز من التحليل، حتى وإن كان في مقدورنا اليوم، وربما حتى في ذلك الحين، أن نأخذ على الفيلم مبالغته في رسم شخصية نادية، ورسم غفلة الأب وسوء تصرفاته وحماقة ردود فعله.
> ترى أفلا يمكّننا هذا من اعتبار صلاح أبو سيف، في هذا الفيلم، كما في بقية اشتغاله على الأعمال المقتبسة من عبدالقدوس بدورها، من «أنا حرة» الى «النظارة السوداء».... المخرج المصري الذي عرف كيف ينقل الى الشاشة السينمائية أحوال بورجوازية مصرية صغيرة كانت تعيش ذروة تكوّنها في ذلك الحين، فيما لا تتوقف عن الشكوى من بقائها خارج التكوّن في الإبداع الفني والأدبي في هذا البلد؟ فهذه البورجوازية الصغيرة التي كانت قد «وُلدت» وازدهرت مع صعود الاقتصاد الوطني على يد طلعت حرب وشركاته ومن ساروا في ركابه من كبار الاقتصاديين الوطنيين المصريين، وقد عبّر عنهم «حزب الوفد» ومشتقاته، كانت تفتقر الى تعبير إبداعي حقيقي عنها يبتعد من تلك الحكايات العواطفية والميلودرامية التي كانت تقدمها للجمهور (من أعمال محمود تيمور الى «دعاء الكروان» لطه حسين الى «شجرة اللبلاب» لأحمد عبدالحليم عبدالله، مروراً ببعض ما أصدره يوسف السباعي، الذي ستكون روايته عن «الحارة»، «السقا مات» من أفضل ما كتب وليس روايات البورجوازية الصغيرة كما حاول صياغتها أحياناً...). وفي يقيننا أن هذا التعبير وجد ضالته لدى إحسان عبدالقدوس الذي من الواضح أنه كان من أكثر الكتاب المصريين في ذلك الحين إدراكاً لكم أن ثورة 23 تموز (يوليو)، التي كان منتمياً إليها بكل جوارحه وجهوده - بل حتى صاحب إحدى الشرارات التي أطلقتها، عبر فضح مقالاته في «روز اليوسف» صفقات الأسلحة الفاسدة التي تسببت في هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين -، كما أن تلك الثورة أتت لتربط، في توجهاتها الأولى و»طبقية» معظم قادتها، بين إنجازات البورجوازية الوطنية (طلعت حرب) وضرورات دخول زمن العالم لطبقات مدينية ها هي الآن تحاول أن توجد مكاناً لها تحت الشمس يتّسع لأخلاقياتها وتطلعاتها. وفي يقيننا أن هذا الجانب الذي يصوره «لا أنام» خير تصوير، لا يزال في حاجة الى أن يُدرس بعمق.
نقلا عن موقع الحياه اللندنيه