بقلم : ابراهيم العريس
«ولا يضارع الأزهر معهد آخر في الدنيا، في الخدمات العلمية التي قام بها منذ إنشائه قبل نيّف وألف سنة إلى اليوم. فقد كانت وفود الطلبة تقبل عليه من أركان الدنيا كلها، فيجاورون في الأزهر ثم يعودون إلى بلادهم شيوخاً يقومون بدورهم في إنشاء المعاهد الدينية الإسلامية في بلادهم». عبر هذه العبارات التي يوردها المفكر المصري الراحل الدكتور حسين مؤنس في واحدة من دراساته الأساسية حول التاريخ الإسلامي، يمكن، في شكل واضح فهم الدور الأساس الذي لعبه الأزهر، في حياة الإسلام والمسلمين ولا يزال يلعبه. والدكتور حسين مؤنس حين يصف هذا الدور الإشعاعي للأزهر، إنما يصل إلى نتائج لم تكن على الأرجح في حسبان ذلك القائد الفاطمي الذي شرع في بناء هذا الصـرح الإسلامي الكبير، وجعل افتتاحه للصلاة في العام الميلادي 972 -361 هـ، وكان بهذا من أول وأهم معالم القاهرة الإسلامية بعد تأسيسها. فجوهر الصقلي الذي أسس الأزهر كان هو نفسه من أسس مدينة القاهرة، ومن هنا ارتبط الأزهر بالقاهرة ارتباطاً وثيقاً، ثم مع مرور العصور، جعل منها مركز الاشعاع التنويري في العالم الإسلامي، بيد أن ما لا يرد بوضوح في العبارات التي ننقلها عن الدكتور مؤنس، إنما هو توضيح الدور المعنوي والحضاري الذي يلعبه الأزهر، من ناحية في التكوين العلمي لطلابه الذين يكون عليهم بعد حصولهم على شهادة العالِمية وتخرجهم منه، أن يساهموا في نشر الإسلام الحقيقي بوسطيته واعتداله وذلك على الضد من التشعبات الأخرى لإسلام متطرف لا يمت بصلة إلى الأزهر وما يدرّس فيه من الناحية المبدئية... ومن ناحية ثانية في ربط مدينة القاهرة ذاتها بالمراكز الأساسية للإسلام والتي يعتبر هو ثالثها، بعد الحرم المكّي وملحقاته في الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية)، وبعد المسجد الأقصى في القدس الفلسطينية. ونعرف أن هذه المكانة التي وسمت الأزهر دائماً، مادياً ومعنوياً، تضافرت على الدوام مع الدور الذي وسم القاهرة نفسها في نقطة القلب من العالم الإسلامي. ومن هنا لم يستغرب أحد أن يكون وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قد حرص في زيارته الى مصر قبل أيام، ليس فقط على زيارة الأزهر، بل كذلك على ربط زيارته تلك بزيارة ذات دلالة لرأس الكنيسة القبطية ومقرها، وذلك بالتزامن مع الحديث عن «إسهام كل مسلم في عمليات إعادة الترميم والبناء التي تطاول الأزهر» في هذه الأيام ومنذ فترة ضمن إطار الصيانة والتجديد المتواصلين اللتين يُخصّ بهما هذا الصرح الذي يتجاوز مكانته القاهرية والمصرية.
> ترى، بعد هذا كله، هل يمكن حقا القول أن الأزهر كما نعرفه اليوم هو نفسه ذاك الذي فكّر فيه جوهر الصقلي وسيّده الحاكم الذي عُرف باسم المعز لدين الله وهما يشرعان في بناء هذا المركز الإسلامي العلمي؟ لا شك في أن
ما أقامه جوهر الصقلي، وسط القاهرة في ذلك الحين، يكاد يبدو غير ذي علاقة بما هو عليه الأزهر اليوم، لا من ناحية المساحة ولا من ناحية الشكل العمراني، ولا، طبعاً، من ناحية الوظيفة. فالأزهر، ربما كان ينطبق عليه، من دون أدنى التباس، مفهوم «العمل الذي هو دائماً قيد الإنجاز» Work in Progress. بمعنى أن التطورات التي طاولته على مدى الألف عام الفائتة، وصولاً اليوم إلى التطويرات القائمة والتي أشرنا إليها قبل سطور، فاقت، حجماً وأهمية، أي تطويرات طاولت أي مبنى في العالم على الإطلاق. ومن هنا، يمكن أن يقال إن بناء الأزهر في حد ذاته، يكاد يكون صورة استعراضية لمجمل التطورات التي طرأت على العمارة الإسلامية ذاتها. واللافت أن تلك التطورات، وكانت غالباً على شكل إضافات، كانت تساير على الدوام وظيفة الأزهر الدينية والاجتماعية، أكثر مما تساير مثلاً أعلى معيناً من قبل. أفلا يمكننا مع هذا النظر إلى الأزهر بوصفه صورة مصغرة للتطور الذي طرأ على وظيفة مركز الاشعاع الديني، بالنسبة إلى الحياة اليومية والعلمية لأصحاب الايمان؟
> إن استعراضاً للّحظات الانعطافية الأساسية في مسيرة قيام الأزهر، تضعنا أمام هذا الواقع: فجوهر الصقلي أسس الأزهر متمماً بناءه خلال عامين، في عهد المعز لدين الله الفاطمي كما قلنا. ثم في تاريخ فاطمي غير واضح رفع السقف الأصلي الذي كان منخفضاً. ثم جاء نزار العزيز والحاكم بأمر الله ليدخلا تحسينات جمة على الأزهر، من ضمنها اقامة الصحن الأوسط الرحيب الذي تحيط به أروقة ذات عقود فارسية، وهيئة ايوان الصلاة بمقصوراته الخمس المتوازية. وفي ما بعد جاء المستنصر والحافظ والعامر ليضيف كل منهم جديداً إلى المبنى موسعاً إياه، وحتى وإن كنا لا نملك التفاصيل الدقيقة عن حجم تلك التبدلات والتعديلات والإضافات، خصوصاً أنها لا تتعلق بتعبيرات جمالية بمقدار ما كانت تتعلق، على الأرجح بإضافات وتوسيعات وظائفية، أو أحياناً برغبة من حاكم من الحكام المتعاقبين، في أن يبدّل لمجرد التبديل أو لمجرد رغبته في محو ما تركه سلفه من آثار عمرانية وكأن الأزهر، كبناء وكدلالة، صار صفحة تاريخ يدوّن عليها كل حاكم آت الى الحكم لمساته وربما رغبته في محو لمسات سابقة. والحقيقة أنه لئن كان هذا قد جعل تشكّل الأزهر انتقائياً وفي بعض الأحيان يخلو من تجانس، فإنه في الوقت ذاته عكس العز المعنوي الذي بات لذلك الصرح عصراً بعد عصر وزمناً بعد زمن وحاكماً بعد حاكم طوال الحقبة الفاطمية.
> غير أن العز الذي شهده الأزهر أيام الفاطميين عاد ودفع ثمنه أيام الأيوبيين الذين أهملوه، ولا سيما منهم صلاح الدين الذي استولى على بعض ما فيه من قطع وحلى، ثم أمر بإيقاف الخطبة فيه. ومنذ ذلك الحين راحت وضعية الأزهر تتدهور. وهي واصلت تدهورها إنما دون أن ينعكس ذلك تدميراً للصرح أو إلحاق أي أذى حقيقي به. هو بالأحرى نُسي تماماً. وظلت تلك هي حاله حتى جاء حكم السلاطين المماليك الذين يبدو أنهم «أعادوا إكتشاف» الأزهر ومكانته، واستهدوا الى مكانة معنوية كانت لا تزال له في أفئدة المصريين ولا سيما القاهريين. ولما كانوا في حاجة وهم الغرباء الذين أتوا ليحكموا مصر من دون أن تكون لهم مكانة أو مآثر أو تاريخ، على عكس حال الفاطميين ومن بعدهم حال أيوبيّي صلاح الدين الذين لم يكونوا في حاجة لاكتساب قلوب شعب حفظ لهم جميل تخليصه من مخاطر الإحتلالات الصليبية والدور الذي لعبوه في رفعة الإسلام، انصرف المماليك إلى إعادة الاهتمام بالأزهر ولا سيما منهم عز الدين ايدمر، الذي أنفق أموالاً على اعادة بنائه وتوسيعه، فيما أعاد الظاهر بيبرس الخطبة اليه، فأعاد اليه الحياة من جديد. ومن يومها والأزهر في توسّع وازدهار يضيف اليه كل نظام وحاكم ما من شأنه أن يعطي للنظام أو الحاكم شرعية وقيمة في نظر الشعب، الذي استعاد علاقته بالأزهر، الذي سيصبح لاحقاً مركز إشعاع وأيضاً مركزاً لانطلاقة الحركات الشعبية وخصوصاً إبان حملة بونابرت، التي دفع الأزهر وما جاوره ثمن ثورة الناس ضده، إذ رمي بالقنابل ودمرت أجزاء منه.
> وحين أطلت العصور الحديثة، كان الأزهر أضحى مسجداً وجامعة ومركزاً علمياً، وصار محط أنظار المسلمين في العالم كله، فيه يجتمع طلاب آتون من شتى الأصقاع والأمم، وعكست هذا أروقته الكثيرة مثل «رواق الأكراد» و «رواق الهنود» و «رواق البغداديين» و «رواق البرنية» و «اليمنية» و «الجبرتية» و «السفارية» و «الشوام» و «الصعايدة» و «المغاربة» الذين، وفق علي مبارك في خططه كانوا من مثيري الشغب في شكل دائم. ولعل أشهر الأروقة اليوم «الرواق العباسي»، نسبة إلى الخديوي عباس الذي بناه أواخر القرن الفائت، فأصبح أشبه بادارة الأزهر. واللافت أن هذا الرواق يضيف الهندسة التركية إلى مجموع الهندسات التي تتجاور في بناء الأزهر.
> وبقي أن نذكر أخيراً، أن الأزهر تحوّل أواسط القرن العشرين الى «جامعة حديثة»، إذ في حين احتفظ بما كان يدرّس فيه من إسلاميات ولغة عربية، أضيفت إليه كليات حديثة وتضاعف عدد طلابه. وللأزهر اليوم خمس مآذن مختلفة الطراز، وستة محرابات بقيت من أصل ثلاثة عشر محرابا كانت له. وللأزهر أيضاً ثلاث قباب «أجملها وأكبرها، في رأي د. حسين مؤنس، هي تلك التي تقوم فوق المدرسة الجوهرية الملحقة بالأزهر».
نقلًا عن الحياه اللندنية