سواء قرأتها، أو سمعتها بصوت علي الحجار الرائع وألحان سيد مكاوي... تبقى رباعيات صلاح جاهين واحدة من أمتع المغامرات الفكرية التي دوّنت بالمحكية المصرية. ولئن كان المجال لا يتسع لها كلها هنا، نقدم هذه المختارات الأكثر دلالة وربما الأكثر إرتباطاً بذات جاهين نفسه، ومراراته:
> خرج ابن آدم من العدم قلت: ياه/ رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه/ تراب بيحيا... وحي بيصير تراب/ الأصل هو الموت وإلا الحياه؟/ عجبي
> ضريح رخام فيه السعيد اندفن/ وحفره فيها الشريد من غير كفن/ مريت عليهم... قلت يا للعجب/ لاتنين ريحتهم ليها نفس العفن/ عجبي
> والكون ده كيف موجود من غير حدود/ وفيه عقارب ليه وتعابين ودود/ عالم مجرب فات وقال سلامات/ ده ياما فيه سؤالات من غير ردود/ عجبي
> يا باب يا مقفول... إمتى الدخول/ صبرت ياما واللي يصبر ينول/ دقيت سنين ... والرد يرجع لي: مين؟/ لو كنت عارف مين أنا كنت أقول/ عجبي
> سهير ليالي وياما لفيت وطفت/ وف ليله راجع في الضلام قمت شفت/
الخوف ... كأنه كلب سد الطريق/ وكنت عاوز أقتله.. بس خفت/ عجبي
> ليه يا حبيبتي ما بيننا دايماً سفر/ ده البعد ذنب كبير لا يغتفر/ ليه يا حبيبتي ما بيننا دايماً بحور/ أعدي بحر ألاقي غيره اتحفر/ عجبي
> ورا كل شباك ألف عين مفتوحين/ وانا وانتي ماشيين يا غرامي الحزين/ لو التصقنا نموت بضربة حجر/ ولو افترقنا نموت متحسرين/
عجبي
> نوح راح لحاله والطوفان استمر/ مركبنا تايهه لسه مش لاقيه بر/ آه م الطوفان وآهين يا بر الأمان/ إزاي تبان والدنيا غرقانه شر/ عجبي
> على رجلي دم .. نظرت له ما احتملت/ على إيدي دم.. سألت ليه ؟ لم وصلت/ على كتفي دم.. وحتى على رأسي دم/ أنا كلي دم .. قتلت..... والا اتقتلت؟/ عجبي
> أنا كل يوم أسمع ... فلان عذبوه/ أسرح في بغداد والجزاير واتوه/ ما أعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب/ واعجب من اللي يطيق يعذب أخوه/ عجبي
> إيش تطلبي يا نفس فوق كل ده/ حظك بيضحك وانتي متنكده/ ردت قالت لي النفس: قول للبشر/ ما يبصوليش بعيون حزينة كده/ عجبي
> في يوم صحيت شاعر براحة وصفا/ الهم زال والحزن راح واختفى/
خدني العجب وسألت روحي سؤال/ أنا مت ولا وصلت للفلسفة؟/ عجبي
> الفيلسوف قاعد يفكر سيبوه/ لا تعملوه سلطان ولا تصلبوه/ ما تعرفوش إن الفلاسفه يا هوه/ اللي يقولوه بيرجعوا يكدبوه/ عجبي
> إنسان أيا إنسان ما أجهلك/ ما أتفهك في الكون و ما أضألك/ شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم/ وفاكرها يا موهوم مخلوقه لك/ عجبي
> وقفت بين شطين عل قنطرة/ الكدب فين والصدق فين يا ترى/ محتار ح اموت .. الحوت خرج لي وقالي/ هو الكلام يتقاس بالمسطرة/ عجبي
> الدنيا أوده كبيره للانتظار/ فيها ابن أدم زيه زي الحمار/ الهم واحد .. والملل مشترك/ ومفيش حمار بيحاول الانتحار/ عجبي
> أيوب رماه البين بكل العلل/ سبع سنين مرضان وعنده شلل/ الصبر طيب... صبر أيوب شفاه/ بس الأكاده مات بفعل الملل/ عجبي
> يا طير يا عالي في السما طظ فيك/ ما تفتكرشي ربنا مصطفيك/ برضك بتاكل دود و للطين تعودً/ تمص فيه يا حلو... و يمص فيك/ عجبي!
> رقاصه خرسا ورقصه من غير نغم/ دنيا... يا مين يصالحها قبل الندم/ ساعتين تهز بوجهها يعني/ يترجرجوا نهديها يعني نعم/ عجبي
> جالك أوان ووقفت موقف وجود/ يا تجود بده يا قلبي يا بده تجود/ ما حد يقدر يبقي علي كل شئ/ مع إن – عجبي – كل شئ موجود/ عجبي
> حين رحل صلاح جاهين عن عالمنا في العام 1986، بالكاد صدّق أحد ذلك. فسمات الرجل وأسلوبه الفني وحضوره الطاغي في الحياة الفنية والسياسية المصرية، والعربية إلى حد ما، منذ سنوات الخمسين، كانت لا توحي أن على الذين يحبونه أن يستعدوا لسماع نبأ رحيله. خاصة أنه عند ذلك الرحيل كان لا يزال في الخامسة والخمسين من عمره، وكان لا يزال في أوج عطائه، في الرسم، كما في الشعر، وصولاً إلى التمثيل.
> فصلاح جاهين كان من الذين لا يؤمنون بالتخصص. كان يرى أن من الحرام على المرء، أن كان صاحب موهبة، أن يمضي عمره كله في الإنكباب على لون واحد من الفن، ومن هنا نرى ذلك التنوع لديه: نراه رسام كاريكاتور من طراز رفيع، يساهم عبر رسمة يومية في «الإهرام» في استنهاض الهمم ساعات الشدة، وفضح الفساد وضروب التعفن والأخطاء القاتلة، حين يستدعي الأمر ذلك، ثم نراه بعد ذلك شاعراً شعبياً يكتب قصائد سرعان ما تصبح على كل شفة ولسان، تحمل الحكمة كما تحمل الفرح والمرارة، وبين هذا وذاك نراه ممثلاً سينمائياً في أدوار صغيرة يقوم بها من باب الطرافة، ثم نراه كاتب أغانٍ وطنية، غالباً، تساهم في التعبئة الجماهيرية خلال العهد الناصري الذي ارتبط به، كما كان حال بعض كبار معاصريه من أم كلثوم إلى عبدالحليم حافظ. ومن المعروف أن صلاح جاهين كتب لهذين، بالتحديد، أجمل أغنياتهما الوطنية والتعبوية التي كانت تواكب لحظات الازدهار والاندحار طوال أيام جمال عبدالناصر مثل «إحنا الشعب» و «بالأحضان» و «ثوار» و «المسؤولية» و «يا أهلا بالمعارك»، أغنيات ساهمت مساهمة كبيرة في الدعاية للعهد الناصري وفي إعادة تقويم الأمور لصالح السلطة في كل مرة تختل فيها الموازين. وبعد ذلك كله كنا نرى صلاح جاهين مؤلفاً للأوبريت، وكاتب سيناريوات سينمائية. ولئن كان قد وصل إلى ذروة مجده الشعبي حين اختير نشيده «والله زمان يا سلاحي» ليصبح النشيد الوطني، فإن قمة صلاح جاهين الفنية لم تكن لا في هذا ولا في ذاك، بل في تلك «الرباعيات» التي حملت مسار حياة وفكر كاملين، فامتزجت فيها الحكمة الشعبية بالموقف الفلسفي، والرؤية الاجتماعية بالعناصر الذاتية، بحيث أنه إذا كان سيبقى شيء من صلاح جاهين- فنان اللحظة الراهنة وفق تعريف واحد من الذين كتبوا عنه- فإن ما سيبقى منه هو تلك «الرباعيات» التي تكشف كم أن صلاح جاهين كان تلميذاً نجيباً لفؤاد حداد، أحد أكبر أساطين الشعر الشعبي في مصر.
> ولد صلاح جاهين في سوهاج، في الريف المصري في 1930، وتلقى علومه الإبتدائية في مدرسة أسيوط ثم درس في قنا، قبل أن يتجه في شكل نهائي إلى الرسم والشعر، متأثراً بفؤاد حداد ولكن كذلك ببيرم التونسي- ومنهما إلى الصحافة، حيث نراه في «روز اليوسف» عند أواسط سنوات الخمسين ومشاركاً في تأسيس شقيقتها «صباح الخير». وهو في خضم ذلك كله لم يتوقف عن نشر الشعر وكتابة الأغاني، فيما راحت رسومه الكاريكاتورية تشتهر، جاعلة منه واحداً من أبرز رسامي الكاريكاتور في العالم العربي.
> جمعت أشعار صلاح جاهين الزجلية في خمسة دواوين صدرت بين 1955 و1966 وهي على التوالي «كلمة سلام» و «موال القتال» و «القمر والطين» و «قصاقيص ورق» ثم «الرباعيات» كما أن ديواناً سادساً صدر قبل رحيله بعامين عنوانه «أنغام سبتمبرية».
> وفي مجال الكتابة للمسرح، إضافة إلى كتابة أوبريت «الليلة الكبيرة» بين أعمال أخرى، اهتم صلاح جاهين، خاصة، بمسرح العرائس حيث كتب أعمالاً عديدة منها «الشاطر حسن» و «قيراط حورية» و «الفيل النكتة الغلباوي» التي «مصّرها» عن مسرحية تشيكية للأطفال. وفي السينما، أضاف إلى مساهمته في كتابة حوار العديد من الأفلام، وخاصة مع يوسف شاهين، وأغنيات لأفلام أخرى، نراه ممثلاً، أدواراً صغيرة وإن كانت لافتة في ثلاثة أفلام هي «لا وقت للحب» و «رابعة العدوية» و «اللص والكلاب».
> في شكل إجمالي كان صلاح جاهين صاحب حضور كبير ومكثف في الحياة الفنية والثقافية في مصر، عرف بمرحه الدائم وباستجابته السريعة أمام المواقف والأحداث، غير أن ذلك لم يمنع المرارة من أن تتسلل إلى داخله، لا سيما منذ أواسط سنوات الستين، بعد انفصال سورية عن مصر، وإثر هزيمة الخامس من حزيران، وخاصة في أواخر الستينات، بعد هزائم عبدالناصر المتكررة ثم رحيله. وعلى الرغم من حيوية صلاح جاهين وإقباله على الحياة، يمكننا أن نلمح في ثنايا رباعياته موقفاً مريراً من العالم، ربما كان من أجمل ما عبر به عنه تلك الرباعية التي كتبها في 1981، حين اكتشف انسداد بعض شرايين قلبه وقال فيها: «يا مشرط الجراح أمانة عليك/ وأنت ف حشايا تبص من حواليك/ فيه نقطة سودا في قلبي بدت تبان/ شيلها كمان والفضل يرجع إليك/ عجبي!».
نقلًا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع