هتجنّ يا ريت يا خوانّا ما رحتش لندن ولا باريز
دي بلاد تمدين ونضافة وذو ق ولطافة وحاجة تغيظ
* * *
ما لاقيتش جدع متعافي وحافي وماشي يقشر خس
ولا شحط مشمرخ أفندي معاه عود خلفه ونازل مص
ولا لب أسمر وسوداني وحمص وانزل يا تقزقيز
هتجنّ يا ريت يا خوانّا ما رحتش لندن ولا باريز
* * *
ولا عركة في نصف الليل دايرة بالحبل وساحبها بوليس
قدامها جدع متجرجر وشه معور قال ده عريس
الخلق ما هي بتتجوز واشمعنى احنا مفيش تمييز
هتجنّ يا ريت يا خوانّا ما رحتش لندن ولا باريز
* * *
و لا واحدة في وش الفجر تبرطع ماليه الدنيا صوات
قال ايه جوز خالتي أم أحمد سلفة أخوها السيد مات
سبحانك ما أعظم شانك والله الموت ده مفيد ولذيذ
هتجنّ يا ريت يا خوانّا ما رحتش لندن ولا باريز
* * *
ولا صايع طالع يجري وصايع تاني بيجري وراه
ويقول هأع حصلتك يا بن الأبصر إيه عاملاه
لا الشارع غيط يا خوانّا ولا إحنا بدارى ولا إحنا معيز
هتجنّ يا ريت يا خوانّا ما رحتش لندن ولا باريز
* * *
ولا حد بيبع حاجة يقول بريال وتاخدها بصاغ
يا خوانّا حتى الإبرة تاخدها بدوشة وقلب دماغ
حلفان وعراك ومناكدة ويمكن ضرب كفوف يا حفيظ
هتجنّ يا ريت يا خوانّا ما رحتش لندن ولا باريز
* * *
ولا شفتش ده اللي بلاسة وده اللي بعمة وده بطربوش
ملابسنا يا ناس تشكيلة تعد أصحابها ما يتعدوش
دول ناس كنا أحسن منهم قول ومسيرنا بإذن الله نبقى أحسن منهم برضك بعد الدرس اللي أخدناه
والله ده عيب نتهجى دروس يا أساتذة على التلاميذ
هتجن يا ريت يا خوانّا مارحتش لندن ولا باريز
> من المؤكد أن هناك كثراً بين قرائنا سيجدون شيئاً من الصعوبة في قراءة أبيات هذه القصيدة الزجلية المكتوبة باللهجة المصرية. غير أن هؤلاء القراء، في معظمهم في الأقل، وبعد أن يجهدوا لقراءة هذا النص، سيكتشفون أن الجهد كان مستحقاً، وأن الزجال الذي كتبها عام 1920، إنما تمكن فيها من التعبير في شكل كاريكاتوري فائق الحسن يكاد كل بيت من أبيات القصيدة يرسم من خلاله صورة اجتماعية قد تكون مسلية ومضحكة، لكنها بالتأكيد تخفي مقداراً كبيراً من المرارة التي يشعر الزجال هنا بها، ليس إزاء ما يراه في بلاده، مصر بالتحديد، ولكن من خلال المقارنة التي تتاح له إذ زار لندن وباريس، في ذلك الحين وشاهد نمطاً من العيش والسلوك وضعه مباشرة على تماس مع ما كان - وسيبقى - يعيشه في البلد التي أتى منها. لقد فعل ناظم هذه الأبيات هنا، ما كان فعله ذاته، قبله بعقود طويلة، رفاعة رافع الطهطاوي الذي كان من الواضح أنه فيما كان يتحدث عما شاهده وعايشه خلال سنواته الباريسية، أواسط القرن التاسع عشر، إنما كان، وفي شكل تغلب عليه المواربة، يصوّر ما يقابله في الحياة الاجتماعية المصرية. فها علينا أن نوضح هنا أن كاتب هذه القصيدة الزجلية لم يكن سوى بيرم التونسي الذي عبّر فيها عن انتقاده الحاد لسلوك المصريين، والعرب عموما بالتالي، هو الذي كان أكثر تأثيراً من سلفه التنويري الكبير لأن الطهطاوي كان يكتب للنخبة بلغة النخبة، أما التونسي فكان يكتب للشعب بلغة الشعب، هو الذي حُولت قصيدته هذه إلى أغنية سرعان ما صارت شعبية ينشدها العشرات ويستمع إليه الملايين وربما يتأثر بها مئات الألوف.
> مهما يكن من أمر، فلا بد أن نوضح هنا أن بيرم التونسي لم يكن، بالطبع، أول من كتب هذا النوع من الشعر الشعبي باللهجة المصرية في قرننا العشرين هذا، ولم يكن الأخير، لكنه كان، ولا يزال يعتبر حتى اليوم الأب الشرعي للحداثة في كتابة ذلك الشعر، ويراه العدد الأكبر من المصريين والعرب، الضمير الحي للرجل المصري، على الرغم من اسمه وأصوله التونسية. فالحال أن ذاك الذي كتب لمصر أروع أزجالها، ولفن الغناء أروع أغنياته، وللمسرح الغنائي بعض أجمل نصوصه، واقترن اسمه باسم الشيخ سيد درويش، ثم باسم أم كلثوم طبعاً، كان تونسي الأصل، على رغم ولادته في الإسكندرية. والمؤسف أنه على رغم تلك الولادة وعلى رغم انتمائه الحسي والعاطفي والعملي والوجداني للشعب المصري، ظل بعض غلاة المصريين يذكرون بأصوله التونسية ويعتبرونه غريباً كلما تضايق منه أحد. لكن بيرم التونسي لم يعبأ بذلك أبداً، بل كان يصر على انتمائه المصري ويخوض الشعر والسياسة من موقع وطني ويُنفى مع المنفيين ويغضب مع الغاضبين، ويكتب من دون هوادة، تلك القصائد والأغنيات التي جعلته مبدعاً في مدرسة امتدت وتشعبت لتشمل من بعده فنانين مبدعين من طراز صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وفؤاد حداد وغيرهم.
> عندما توفي بيرم التونسي في أوائل عام 1961 كان في الثامنة والستين من عمره، وكان لا يزال في قمة عطائه على رغم الكآبة التي تملكته خلال سنوات عمره الأخيرة. ولعل المصادفة هي التي جعلته يودع الروح في اللحظة ذاتها التي كانت فيها أم كلثوم تغني واحدة من أجمل الأغنيات التي كتبها لها، «هو صحيح الهوى غلاب». والحال أن اسم بيرم التونسي ارتبط باسم أم كلثوم، تماماً كما كان ارتبط قبل ذلك باسم سيد درويش الذي عاصره فتياً وشاباً، وكانا ابني مدينة واحدة هي الإسكندرية، حيث ولد بيرم في حي السيالة عام 1893، واختلط منذ طفولته بأوساطها الشعبية، وشهدت شغفه بالشعر والمطالعة وتتبع اللهجة الشعبية منذ نعومة أظفاره. وفي مكتبتها، راح ينهل في قراءة الروايات والمجموعات الشعرية. ولقد انخرط بيرم في النضال السياسي منذ صباه، وهكذا حين اندلعت ثورة 1919 الشعبية راح يكتب الأزجال في تحيتها كما أصدر مجلة ساخرة باسم «المسلة» هاجم خلالها الملك فؤاد الذي استبد به الغضب فأمر بنفيه إلى تونس وباريس، حيث عاش سنوات يتنقل بين شتى المهن والأعمال الصغيرة وهو مكتئب يرسل أشعاره إلى مصر، محرضة غاضبة ساخرة... تواصل ما كان بدأه في العشرينات حين كتب أشعاراً مثل: «أنا المصري كريم العنصريين»، وأغنيات مثل «أنا هويت» وأعمالاً مسرحية (لحّن سيد درويش أهمها) ومنها «شهرزاد»، كما كتب بعد ذلك مسرحيات غنائية أخرج عزيز عيد أهمها ومنها «ليلة من ألف ليلة» و «عقيلة».
> ومما يجدر ذكره هنا هو أن بيرم بدأ حياته الفنية شاعراً بالفصحى، لكنه سرعان ما انتقل إلى الكتابة بالعامية المصرية معتبراً أن قضية العامية ليست مسألة ألفاظ، بل مسألة إحساس وفكر، وأن اللغة العامية يمكنها إن استخدمت في شكل جيد وراق ينتمي إلى روح الشعب لا إلى غرائزه، أن تقدم فناً رفيعاً يحمل صوراً مبتكرة وفكراً مقنعاً وتعبيراً لغوياً ممتعاً. والحال أن كل ما كتبه بيرم التونسي يتميز بهذا، كما يتميز بمعاصرة وحداثة تجعلان «قصائد» له غنتها أم كلثوم مثل أغنيات فيلم «سلامة» و «دنانير» وأغنيات لا علاقة لها بالأفلام مثل «أنا في انتظارك و «أهل الهوى» و «شمس الأصيل» و «حبيبي يسعد أوقاته»، وصولاً إلى أغانيها الدينية الرائعة وآخرها «القلب يعشق كل جميل».
> لقد كان بيرم التونسي الذي كرّمه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بمنحه «وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى» قبل موته، كان حالة خاصة في حياة الحركتين الفنية والشعرية في مصر. لكن الغريب أن ذلك الشاعر الساخر والروائي المتهكم، والكاتب المسرحي الذي ابتكر عشرات الشخصيات ومتّع ملايين المتفرجين والمستمعين، تركت لديه سنوات المنفى والحرمان، كما ترك لديه الذين كانوا لا يفتأون يهاجمونه في مصر، آخذين عليه - بين أمور أخرى - كونه من «أصول غريبة»، ترك لديه هذا كله مرارة وقسوة رافقتاه طوال النصف الثاني من حياته وجعلتاه قليل الميل إلى الاختلاط بالناس.
> غير أن بيرم التونسي، عاد وكُرّم كثيراً بعد موته، وبعد أن ازدهرت كتابة الشعر الشعبي في مصر خلال سنوات الستين وما بعدها، وراحت تُكتشف قصائد له مفاجئة ورائدة ضمتها أعماله الكاملة التي نشرت أكثر من مرة، ولقد بلغ تكريم بيرم التونسي ذروته عام 1993 حين احتفلت مصر بالذكرى المئوية لولادته، وصدر عنه كتاب مهم تناول شتى جوانب حياته وإبداعه وكشف عن خلفيات ذلك الإبداع وتنوعه، ليذكر الأجيال الجديدة بواحد من كبار الرواد.
نقلًا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع