بقلم-نبيل عمرو
بصرف النظر عن نسبة الفوز والخسارة في الانتخابات المحلية التركية، فإن ما لفت نظر العالم هو التراجع الكبير في مكانة حزب «العدالة والتنمية». ويبدو أن الحزب الجريح الذي يمتلك إمكانات ضخمة بفعل تحكّمه في السلطة، ينظر للأمر من زاوية فنية، أي أن هنالك خللاً في العملية الانتخابية، لو تم إصلاحه فسيصير كل شيء على ما يرام.
كذلك فإن زعيم الحزب السيد رجب طيب إردوغان مضى في المنحى ذاته، حين عدّ المدن الكبرى التي خسرها، أو تراجع فيها، مجرد «بعض مدن» سيعمل على ما يضمن تفادي خسارتها في المرة المقبلة.
ومن يعرف تركيا لا يعدّ أنقرة وإسطنبول وإزمير وغيرها مجرد «بعض مدن»؛ فهي في الواقع عناوين الحداثة والقوة والثراء في الدولة التركية.
مرّتان قرع فيهما جرس الإنذار مؤذناً بالتراجع؛ الأولى حين فاز حزب إردوغان في الاستفتاء الذي أجري بغرض تعديل الدستور باتجاه تعزيز صلاحياته؛ إذ حاز النسبة الضئيلة نفسها التي فاز بها في الانتخابات المحلية، أي بفارق واحد في المائة، ومع أن القانون يعدّ الواحد في المائة بقوة التسعين، فإن الواقع يقول غير ذلك، فحين يفوز حزب متحكم بكل مقدرات الدولة بهذه النسب الضئيلة، فذلك ينبغي أن يكون جرس إنذار لا يدعو إلى معالجة فنية لتعزيز قبضة الحزب والفوز بنسبة أعلى في الانتخابات المقبلة؛ بل يتطلب الأمر مراجعة شاملة للسياسة الداخلية والخارجية، وعلى المستويين كانت الأخطاء فادحة ولم تؤثر فقط على المكانة المتفوقة لحزب العدالة والتنمية؛ بل أثرت سلباً على قوة الدولة التركية ومكانتها... هذه الدولة التي هي في حالات الضعف أو القوة تظل دولة نوعية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
صحيح أن التصويت في الانتخابات المحلية يبدو كتصويت على الخدمات، إلا إنه وحين يعرض على الجمهور كتصويت على الأحزاب المتنافسة وبرامجها، فإن النتائج لا بد من أن تكون سياسية بامتياز، خصوصاً إذا ما تطابقت نتائج المحلية مع نتائج العامة؛ وهذا ما حدث.
بمراقبة متجردة، فإن أداء إردوغان وحزبه على الصعيد الداخلي تميز بشطط كبير، خصوصاً فيما يتصل بالعلاقة مع الأحزاب المنافسة، أو في المعالجة الشرسة والمنفلتة من كل الضوابط العاقلة في واقعة الانقلاب الفاشل.
لقد جنحت المعالجة إلى مستويات ظهرت فيها على أنها أوسع عملية تصفية للخصوم، وإن كانت مغطاة بنصوص قانونية، إلا إنها أظهرت إلى أي مدى تذهب السلطة في استخدام مقدرات الدولة في قمع الخصوم وتصفيتهم.
أما فيما يتصل بالسياسة الخارجية، فهنا أستشهد بنموذجين أوقع فيهما إردوغان تركيا في أخطاء فادحة، ليس من بينها طريقة معالجة القضية السورية؛ إذ يستحسن انتظار الخلاصات النهائية، دون الظن بأنه يعمل جيداً على هذا الملف.
النموذج الأول والصارخ يتجسد في العلاقة مع مصر. ودون الإسهاب في عرض الوقائع والتفاصيل، فإن الأداء التركي تميز بجموح لا يليق بدولة إقليمية عظمى إزاء دولة لا تقل أهمية عنها.
لقد اختار إردوغان تحالفاً فاشلاً مع جزء منهار في مصر هو «الإخوان المسلمون»، وناصب الكل المصري؛ متمثلاً بالدولة، عداءً وصل إلى حالة حرب سياسية وإعلامية، ولقد أهدر إردوغان فرصة وفّرها الرئيس عبد الفتاح السيسي لتحسين العلاقة معه؛ إذ أغلقها بخطاب استفزازي، بدا فيه كما لو أنه الوصي على الحياة الداخلية المصرية، وأساليب الحكم والإدارة في تلك الدولة، ولو قرأ إردوغان جيداً التراث العاطفي الذي يمتلكه الشعب المصري إزاء تركيا، وحسب مزايا التعاون بدلاً من التوتر السياسي والإعلامي، لالتقط رغبة السيسي وبنى عليها دون أن يكون ملزماً بإنهاء إيوائه «الإخوان» الذين التجأوا إليه، بل كان الأكثر حكمة أن يلعب دور الوسيط.
وواقع العلاقة المضطربة مع مصر يوازيه ولو بوتيرة ومحتوى مختلف، العلاقة مع السعودية، التي ترتبط مع الدولة التركية بعلاقات حيوية في كل المجالات... كان بوسع إردوغان تجنب التدخل في الخلافات البينية القائمة في البيت الخليجي، وأن يحصد جراء ذلك منافع مضاعفة، ذلك أن المجال العربي المجاور هو إحدى أهم رئات التنفس لبلده ومجتمعه، وأحد مجالات ازدهاره الاقتصادي وحتى مكانته الاستراتيجية.
هل نتوقع من إردوغان وحزبه تعديل البوصلة والمسار داخلياً وخارجياً، أم إنه سيواصل اعتناق وهْم الإمبراطورية العثمانية، في زمن يجسد فيه هذا النوع من الأوهام ثقلاً يدفع صاحبه الكثير جراء اعتناقه دون أن يقبض شيئاً.
الخطاب المصري والسعودي ومعهما العربي يفتح الأبواب واسعة أمام الدولة التركية إذا ما برهنت على استعدادها لتطوير علاقات شاملة يحكمها الاحترام المتبادل، والنأي كلياً عن التدخل في شؤون هذه الدول.
إن المقومات الإيجابية لهذه العلاقة أعلى بكثير من السلبية، فلا يزال العرب ينظرون لتركيا على أنها جارة وشقيقة، وهذا رصيد ينبغي ألا تبدده الرهانات الخاطئة.
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع