بقلم: نبيل عمرو
كانت الأدبيات الفلسطينية تفضل استخدام شعار التحرير على شعار الاستقلال، وحين كان لا بد من استخدام الثاني فكان الأمر متعلقاً بالقرار.
وفي مرحلة النمو الثوري الواسع والمتسارع وإحدى أهم محطاته المثلث الجغرافي الثمين، الأردن وسوريا ولبنان، كان الوضع الثوري بشقيه العسكري والمدني مغطى بشعار التحرير، الذي اكتسب ما يقارب القداسة بعد انتصار الكرامة، فكبرت الثورة واتُّهمت بالتضخم الأكبر من القدرات وانفتحت أمامها أبواب العالم العربي والإسلامي واقتحمت المؤسسات الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة، وصار لها حضور جماهيري قوي على مستوى العالم.
في ظل هذا التمدد نمت مخاوف جدية لدى أصحاب الساحات الثلاث، فالأردنيون خشوا من تكرس سلطة موازية وقد تتحول إلى بديلة على أرض مجتمعهم وبلدهم، كما خافوا من شعارات عدّت عمان «هانوي» مع مسلكيات بالغت في التدخل الفظ فيما لا صلة مباشرة له بشعار أو هدف التحرير، وانتهى الأمر وبعد فترة وجيزة للغاية بخروج شامل لثورة التحرير من أهم جغرافيا وأقربها إلى الوطن لتجد نفسها تعود إلى قاعدتها الأولى سوريا، حيث قدرة الدولة على ضبط حركة الثوار حتى لو تضاعف عديدهم بما في ذلك تمركزهم على تخوم جولانها المحتل، وهنا نشأت ثنائية الاحتياج الأساسي لسوريا وتطلع ياسر عرفات لأن يكون قراره مستقلاً عنها، وكانت أصعب ثنائية وجد الفلسطينيون أنفسهم تحت تأثيرها.
لم يكن يُنظر لشعار القرار الفلسطيني المستقل في سوريا مثلما نُظر إليه في الكثير من الدول كتأكيد لشرعية وقوة الثورة وإطارها منظمة التحرير، بل كاتجاه انعزالي عمّا تعدّه سوريا التزامها الأساسي بالقضايا القومية ومركزها القضية الفلسطينية، وهنا نشأت معادلة الحذر المتبادل بين عرفات الرجل القوي على الساحة الفلسطينية والشعبية العربية، وحافظ الأسد الرجل الأقوى على الساحة الجغرافية الاستراتيجية، وهذا الحذر المتبادل حمل الأسد على تطوير تدخله في الحالة الفلسطينية مستخدماً امتداداته وجغرافيته ومكانته، ما جعل من استقلال القرار الفلسطيني أمراً متعذرة ممارسته بالقدر الذي يريده عرفات.
ووفق نظرية الأواني المستطرقة حيث الماء يجري أينما وجد الفراغ، ذهبت الثورة المطرودة من الأردن والمسيطَر عليها في سوريا إلى لبنان وكان بعد ذلك ما كان من مخاوف متبادلة كانت أوسع بكثير من تلك التي نشأت على الساحتين السورية والأردنية لتسفر الأمور عن الخروج الكبير من الجنوب وبيروت مع وجود قلق في الشمال اللبناني لا بد أن يخرج أخيراً.
عوامل التعرية التي تنقل جبالاً من أماكنها وبحاراً وأنهاراً ليست مجرد ظاهرة طبيعية بل يوجد في السياسة ما يماثلها، فانتقلت الثورة الفلسطينية من جغرافيا الكفاح المسلح لتستقر في أحضان جغرافيا الحل السياسي.. كان الانتقال الأول مغادرة عرفات لآخر معقل جغرافي مقاتل «طرابلس لبنان ومخيماتها» بجهد مصري وفرنسي مباشر، كانت نتيجته الأولية كسر الحصار العربي على مصر من خلال ما وُصف في حينه بخرق المحرّم الأكبر، حين رست سفينة عرفات على البر المصري، كان رسواً سياسياً استراتيجياً أفضى بعد رحلة زمنية طويلة إلى أن يمسك الرئيس مبارك بيد عرفات ويوصله إلى حدود قطاع غزة ليدخل إليه من معبر تسيطر عليه إسرائيل.
كسب الفلسطينيون قراراهم المستقل أو القدر المتاح منه، غير أنهم خسروا الحاضنات الآمنة والفعالة التي تجعل منه قابلاً للتحول إلى دولة مستقلة على الأرض، فأعلنوا استقلالهم السياسي عبر برلمانهم المجمع عليه ومن أرض الجزائر بما يحمله ذلك من إيقاع معنوي ذي دلالة تاريخية.
وتسابقت الدول على افتتاح سفارات لدولة المنفى الوليدة، وتطور تمثيل وحضور منظمة التحرير حتى في أميركا وإسرائيل، وشحنت الجماهير الفلسطينية داخل الوطن بطاقة إضافية متجددة أوصلت كفاحها خصوصاً انتفاضة الحجارة حد التأثير على الحكومة الإسرائيلية التي لم تجد مفراً من تجاوز محرّم التعامل مع منظمة التحرير، لتدخل الحالة الفلسطينية وبتوافق دولي جماعي قلّ نظيره في التاريخ عهد مدريد وأوسلو.
عوامل التعرية السياسية التي أشرت إليها في مقدمة هذه المقالة أضعفت الشعارين: شعار التحرير وشعار الاستقلال، وغيّرت حتى المفاهيم التي كانت بدهية؛ فالتحرير تحوَّل إلى تسوية، والاستقلال ظل في إطار وثيقته البليغة التي كتبها الشاعر محمود درويش وتعامل كثيرون معها كما لو أنها مجرد قصيدة، رغم أنها أنتجت تحولات ذات شأن في السياسات والمواقف تجاه الحالة الفلسطينية.
والان... لا تجري الأمور نحو تحرير واستقلال بالمعنى المتعارف عليه، إلا أن التحرير الذي هو الشعار الرئيسي والدائم للحركة الوطنية الفلسطينية وثوراتها وقواها... والاستقلال الوثيقة والجهد الذي هو المصطلح الأكثر تداولاً، إن لم يكونا حرّرا وطناً وشعباً إلا أنهما حافظا على أهم ما يملكه الفلسطينيون ويقدرون عليه وهو الحفاظ على الحلم واعتناق لا بديل عنه للشعارين المحاصرين، ومثلما تنقل عوامل التعرية جبالاً وبحاراً وأنهاراً من أماكنها فلا يزال الفلسطينيون يأملون أن تتبدل الأمور وسلاحهم الأول والأخير «لا راية بيضاء تُرفع ولا حلم يقتله أصحابه».