بقلم: نبيل عمرو
دول عظمى امتلكت وسائل قوة تقليدية ونووية مُنيت بهزائم كبرى، حين بالغت في السباق على النفوذ الكوني وكأن العالم مجرد ضواحٍ لإمبراطورياتها. لا يضر لو ذكّرنا بما لم يُنسَ بعد، كهزيمة أميركا في فيتنام، وهزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ومن قبيل التناوب على الهزائم هُزمت أميركا حيث هُزمت منافستها في عين المكان.
الهزيمة الأكبر كانت من نصيب الاتحاد السوفياتي الذي تفكك بعد أن وصل حافة المجاعة؛ إذ لم تنفعه قدراته على تدمير العالم خمسين مرة.
الدرس الذي أفرزته الهزائم أظهر أن الانكفاء هو الأسلم للحفاظ على الكيانات؛ ذلك أن متانة الوضع الداخلي في كل بلد مهما كبر أو صغر هو الضمانة الأهم للمصالح، فلم تعد روسيا دولة مهمة إلا بعد أن انكفأت على رصيدها الأصلي واستثمرت فيه، وها هي أميركا تمارس انكفاءً تدريجياً على طريقتها الخاصة، بالانسحاب من أماكن كانت تبدو لها مجمع أعصاب لنفوذها الكوني، ولم يخترع بعد الحاسوب الذي يحدد حجم الخسائر البشرية والنفسية والمادية التي دفعتها الدول الكبرى في تنافسها على وهم حكم الكون.
وبالنسبة لنا نحن أهل المنطقة التي تناوبت عليها وانطلقت منها إمبراطوريات سادت ثم بادت. عشنا ظاهرة إحياء القديم؛ فالعرب راودهم حنين لإمبراطورياتهم التي أفلت، فجسدوا حنينهم بالشعارات والأغنيات مع كثير من الاقتتال البيني. وجيراننا الأتراك استيقظ في داخلهم الحنين للعثمانية التي أنهوها بأيديهم بفعل فداحة الاستمرار فيها.
أما جيراننا الإيرانيون، فقد راودهم حلم بعث الإمبراطورية الفارسية التي كانت القطب المواجه للرومانية التي أفلت كذلك.
كم ألحق هذا الحنين من أذى لكل من اعتنقه وبنى سياساته على ذكراه، كانت القوة العسكرية للعثمانية والفارسية سبباً لعظمة عاشت مئات السنين، إلا أنها بالمقابل كانت سبباً لأفول حتمي أعاق النمو الطبيعي للمجتمعات والشعوب والكيانات. في الزمن الذي نحن فيه الآن وما دام الحديث يجري والاهتمام بمعظمه يتجه نحو الملف النووي الإيراني، فلا مناص من كلمة في هذا الأمر، وأبدأ بسؤال، ماذا يمكن لإيران أن تفعل بالقنبلة الذرية إذا ما امتلكتها اليوم أو غداً أو بعد غد؟
فهذه القنبلة اللعينة استُعملت مرة واحدة في ظرف مختلف وزمن آخر، وتقول حقائق الواقع الراهن إنها لن تستعمل مرة أخرى إلا إذا قرر العالم أن ينتحر.
وإذا ما ظل السلاح النووي هدفاً يُسعى إليه فلا ضمانة من ألا تولّد القنبلة الإيرانية قنابل مماثلة في أماكن أخرى، وحينها يبطل مفعولها للمرة الثانية.
في الطريق إليها، وحال إنتاجها تكون خلّفت وراءها دماراً اقتصادياً وتنموياً أقسى وأعمق وأطول من دمار الحروب التي جرت، وبالنسبة لأشقائنا الإيرانيين كذلك فهنالك حكاية الأذرع التي اعتُمدت لفرض نفوذ دولي مركزه شرق أوسطي، فليقرأ الإخوة تكاليف هذه الأذرع ومردودات حروبها التي تبدأ وتتواصل ولا تحسم.
وبالتأكيد، هنالك في إيران من انتبه مبكراً أو متأخراً إلى المردود السلبي المترتب على المضي قدماً في الحلم النووي واستراتيجية الأذرع، وهنا تجدر استعادة تجربة الاتحاد السوفياتي الذي حين كانت تقع إبرة في وارسو يُسمع رنينها في موسكو، فإذا بالأخطبوط الستاليني المرعب ينكمش، وإذا بالمفاعلات خصوصاً بعد تشيرنوبل يعتريها الصدأ، ولم يعد ممكناً استبدالها بالغذاء الذي شح كثيراً في طول وعرض الدولة النووية التي بلغت مساحتها سدس مساحة الكون.
الوصفة التي يخسر كل من يتجاهلها لتعظيم النفوذ وتشريعه وتنميته هي متانة الوضع الداخلي لأي كيان، والإدارة المستنيرة للعلاقات مع الجوار القريب، ووعي وسائل الإفادة من آليات العصر وحسن استخدامها.
كانت الحروب العسكرية عبئاً ثقيلاً على من أطلقها، وكذلك الحرب الباردة التي أنتجت حروباً بالوكالة وأعاقت نمو كثير من الكيانات، وحين ثبت عدم جدوى الحربين عند قطبيهما وأتباعهما وجدنا في منطقتنا البائسة من يعمل على استنساخ فشلها، فهل من وقفة للتأمل؟
من حق إيران أن تقرر سياساتها في كل اتجاه ومن حقنا أن نسدي النصح لا أكثر، وأخيراً يمكن التعريج على إسرائيل فهل أنجاها مفاعلها النووي من قلق دائم أنتجه حجر فلسطيني؟!