بقلم: نبيل عمرو
حين وضع الرئيس الراحل أنور السادات توقيعه على المعاهدة المصرية - الإسرائيلية، إلى جانب توقيع مناحيم بيغن، وبجوارهما توقيع عرّاب الاتفاق جيمي كارتر، قيل في حينه، انتهت حروب الشرق الأوسط، وانفتحت أبواب السلام مع إسرائيل.
تحقَّق الجزء الأول؛ إذ انتهت حروب الجيوش والدول ومع فوارق زمنية ذهب الفلسطينيون بقيادة زعيمهم التاريخي ياسر عرفات إلى ما ذهبت إليه مصر وتبعتهم الأردن، وها نحن نرى انقلاباً كبيراً في العلاقات العربية - الإسرائيلية، بين تطبيع رسمي وعلاقات موضوعية سرية أو علنية أو معلقة على شروط.
لينتقل الحديث عن الحرب بين الجيوش إلى إيران وما تسميه بأذرعها المتعددة، وفي واقع الأمر هو حديث عن الحرب مع إسرائيل لتوفير ممرات إيرانية إلى جهات أخرى.
غير أنَّ العصف الذي اجتاح العالم العربي قبيل ربيعه وأثناءه، أنتج ضحايا كثيرين؛ فظهر على خريطته دول نجت من العصف، وأخرى تغلَّبت عليه وأهمها مصر، ودول وقعت في آتون حروب داخلية تسمى مجازاً الأهلية، إلا أنَّها في الواقع حروب إقليمية وعالمية بالمشاركة المباشرة أو بالوكالة، وخسائرها حتى الآن أفدح بكثير من خسائر كل الحروب التي اجتاحت الشرق الأوسط على مدى تاريخه القديم والحديث، إلا أنَّ ما وحّد الجميع من دون استثناء هو القلق المبرر على حاضر العالم العربي ومستقبله، وما كان يسمى قضاياه المركزية، ومن ضمنها القضية الفلسطينية.
أصحاب هذه القضية كان قد اجتاحهم ربيعهم الخاص، فبين حروب جزئية مع إسرائيل تتخذ في الضفة صفة الأمنية، وفي غزة صفة العسكرية المفتوحة، وبين حروبهم الداخلية التي لم تخلُ في بعض وقائعها من نزف دم إلى حرب مستمرة وإلى أجل غير مسمى بين غزة ورام الله على الشرعية والنفوذ والبرامج والأهداف والتحالفات. ما أفرز حتى الآن حالتين متنابذتين في بلد واحد، يجثم على صدره احتلال وحصار واحد، ففي غزة حرب عسكرية مع إسرائيل تنشب بين وقت وآخر وتخلّف دماراً لم تقوَ على ترميمه حتى الآن، مع حصار خانق وتهديد ساخن يأتي من البر والبحر والجو، وفي الضفة احتلال أشد من كل ما كان منذ حرب يونيو (حزيران) 1967، إلا أنَّه مغطى ببقايا اتفاق حدث ذات يوم وفرّغته إسرائيل من محتواه محتفظة بما لها ومتجنبة حتى الحديث عما عليها.
وهذا وضع لم يبسق أن حدث مثله في تاريخ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي يقترب من القرن أو يزيد.
أين مصر من هذا كله؟
بوسعي القول إنني كنت حين عملت فيها ممثلاً لبلدي وقضيتي، منغمساً في الحالة خلال عامين كانا جزءاً مهماً من الواقع الذي نشأ بفعل الانقسام الفلسطيني، حيث كانت مصر هي الجهة الوحيدة التي تصدت لإنهائه حين عملت على مسارين، الأول منع الحروب المدمرة أن تقع ومنع استمرارها واتساعها إن وقعت، والآخر إعادة الوحدة للفلسطينيين التي كانت مصر عبد الناصر قد أسست لهم منظمة التحرير كخطوة أولى لاستقلال سياسي على مستوى القرار والحضور في المعادلات؛ تمهيداً للاستقلال الوطني المنشود الذي تعتبره مصر إحدى دعامات أمنها القومي وزعامتها العربية.
ما زال الفلسطينيون منقسمين على كل شيء، بين شرعية معترف بها دولياً وشرعية أمر واقع يجري التعامل معها دولياً، كذلك بين نظام حكم عليه ما عليه في الضفة، ونظام حكم عليه ما عليه في غزة، وبين هذين النظامين يجري صراع يسجل كل يوم إن لم أقل كل ساعة، انحداراً في حال القضية المفترض أنها واحدة، وانحداراً في نظرة العالم لأصحابها على أنهم يتقاسمون مأساة ولا يتوافقون على الخروج منها.
غير أنَّ هنالك إجماعاً فلسطينياً بين شرعية الأمر الواقع في غزة والشرعية المعترف بها في رام الله على مصر، فلا يكف المعتدلون عن اللجوء إليها في كل العثرات صغيرة كانت أم كبيرة، أما المتشددون من «حماس» و«الجهاد» وما بينهما من شركاء وأتباع فملاذهم مصر، فمن غيرها يفتح أبواب العالم الخارجي أمامهم وهم يهتفون بتحالفهم مع «حزب الله» وإيران.
مصر تقدم لهم الممر إلى العالم وحركة الأفراد، وكذلك حمل عبء ورشة إعادة الإعمار.
هكذا هي الحالة بعيداً عن المساجلات والشعارات، ولعل ما أوردت يوفر صدقية للعنوان الذي بدأت به، فمن هم في غزة ولنسمهم المتشددين، ومن هم في رام الله ولنسمهم المعتدلين، يتحدون على حقيقة واحدة فقط اسمها مصر.