بقلم: نبيل عمرو
الانقسام الذي عنوانه الشائع «حماس» و«فتح» أو «غزة» و«رام الله»، صناعة فلسطينية في الأساس، وحتى لو كان هنالك تدخل خارجي لإنتاجه وتكريسه، فذلك لا يلغي؛ بل ولا حتى يقلل من، المسؤولية الفلسطينية عنه؛ من منشئه الانقلابي في غزة وحتى فشل كل محاولات إنهائه التي لم تكن جدية في الأساس.
الانقسام الفلسطيني لم يبقَ على حاله كما كان في بداياته؛ بل تطور بسرعة نحو التعمق والديمومة والانفصال، مما أوقع الفلسطينيين في حالة تبدو غير منطقية؛ كلما تضاعفت الحاجة لإنهاء الانقسام تتضاعف الجهود لإدامته وتعميقه، والكارثي في الأمر أن هذا الانقسام الذاتي الفلسطيني - الفلسطيني، يترافق مع تقسيم إسرائيلي للأرض والناس؛ بدءاً بالتقسيم الأوسلوي الأول وفق صيغة «A.B.C»، وقد جرى باتفاق مع الفلسطينيين الذين ذهبوا إليه بادئ الأمر على أنه ترتيب مؤقت؛ من دون أن يخطر ببالهم أنه سيصير دائماً، وحتى هذا لم يعد مناسباً لإسرائيل التي ألغت حدوده الورقية، وصارت تتعامل مع الضفة الغربية على أنها منطقة واحدة مستباحة بلا ضوابط؛ تقضم منها ما تشاء، وتقتحم مناطقها وقتما تشاء، وتسمح بالبناء والهدم حيثما تشاء.
لم يتوقف الأمر عند هذا التقسيم الاحتلالي للأرض؛ إذ صارت له امتدادات شملت الناس الذين يصنفون من جانب الإسرائيليين وفق درجة ارتباط مصالحهم بها، وهذا النوع من تقسيم البشر له سلاح فعال؛ هو التسهيلات، والقمع الشديد لمن لا تطالهم، فمثلاً تتعامل إسرائيل مع قطاع العمل والعمال كثير العدد وقوي التأثير في الحياة الاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية على أنه أحد مجالات تقسيم الشعب وفق ميزان المصالح والاحتياجات، وهذا القطاع الذي لا يملك أحد التشكيك في وطنيته ولا يجوز عملياً ومنطقياً تحميله مسؤولية العمل في إسرائيل بفعل عدم قدرة الفلسطينيين على توفير فرص عمل لمعظم المنتسبين إليه، وهذا القطاع الذي يضم مئات الآلاف.... هو أحد المؤثرات الأساسية في المجتمع الفلسطيني وحياته الاقتصادية.
وامتداداً لقطاع العمال الذي تبلغ مداخيل بعضهم 3 أضعاف رواتب الوزراء، فهنالك قطاع رجال الأعمال الذي تمنح كثيرين منهم تصاريح حركة من دونها يفشلون ويفلسون، وهؤلاء ليسوا بضع عشرات أو مئات؛ بل آلاف عديدة، حتى غزة المحاربة والمحاصرة حصل رجال الأعمال فيها على ألفي تصريح، ووعدت إسرائيل بمضاعفة العدد، ولكن حسب مؤشرات الحالة الاقتصادية والإنتاجية وكذلك مؤشرات الحالة الأمنية ومتطلباتها.
القطاع الأضخم هو قطاع السلطة، وهو الذي تعمل إسرائيل ليل نهار وبشتى الوسائل على ربط مصالحه بعجلة سياساتها التي انتقل عنوانها ومضمونها من الحل السياسي إلى الحل الاقتصادي، وهذا القطاع؛ الذي يستمد أساسيته في الحياة الفلسطينية من وظائفه ومهامه، يجاهد بصعوبة للإفلات من التوظيف الإسرائيلي له بحكم الأمر الواقع وانعدام البدائل وبحكم الاستبداد الإسرائيلي المتحرر من كل الاعتبارات السياسية والأخلاقية بحيث يظل هذا القطاع الضخم والوطني في الأساس تحت رحمة إجراءاته المتصلة بأجنداته، وهذا القطاع الذي يضم ما يربو على مائة وسبعين ألف موظف دائم الخوف على مصدر رزقه الأساسي الذي هو الراتب، وكم من مرة توقفت إسرائيل عن تحويله؛ مما أربك الحياة اليومية والعامة وخلق حالة دائمة من القلق.
المنهج الإسرائيلي في التعامل مع هذا الوضع يقوم على أساس أن الحل والربط بيدها وحدها، وآخر ما حرر في هذا الأمر حكاية إقراض السلطة من مالها بعد أن تعذر الحصول على المال من مصادر أخرى... طريقة التعامل المالي الإسرائيلي فيها من السيطرة والتحكم أكثر بكثير مما فيها من تسهيلات يُزعم أنها تعالج حالة الاقتصاد الفلسطيني المعتل.
الفلسطينيون؛ بمختلف شرائحهم وقطاعاتهم ومجالات رزقهم، على قدر كافٍ؛ بل وناضج، من الوعي بهذه الطريقة الإسرائيلية في العمل، فهم يعيشونها على جلودهم وبصورة لحظية، وينسبونها إلى الأمر الواقع الذي يجسده الاحتلال طويل الأمد... ما يلام الفلسطينيون عليه ليس بوصفهم شعباً ومجتمعاً؛ وإنما كأصحاب قرار، هو استمرار الانقسام المتكرس والذي بلغ حد الانفصال بلا جهد يبذل لإنهائه. أما التقسيم الإسرائيلي عبر سياسة التسهيلات، والتي تسمى «العصا والجزرة»، فلا يمكن عزله منحاً وحجباً عن الانقسام الفلسطيني.
الخلاصة...
كل ما تقدم هو تصوير أراه موضوعياً للحالة الراهنة، إلا إن كلمة السر فيه هو أنه من طبائع الاحتلال، الذي؛ وإن اضطر الفلسطينيون للتعامل معه بوصفه أمراً واقعاً قسرياً، لن يلغي الحقيقة الأعمق؛ وهي أن الشعب الفلسطيني، ومهما تضاعفت التسهيلات المعيشية المتناوبة مع القمع ومصادرة الحقوق الأساسية، يظل بكليته كارهاً للاحتلال ورافضاً له، وهذا ما يخيف صاحب «العصا والجزرة» ويجعله غير مطمئن لما يفعل في سعيه الدؤوب نحو سراب الأمن والأمان والاطمئنان.
التقسيم الاحتلالي سوف يتواصل ما دام الاحتلال قائماً، ولكيلا يطول أمده؛ فإنه يتعين على الفلسطينيين سد كل الثغرات التي ينفذ منها التقسيم الإسرائيلي؛ وأولاها ثغرة الانقسام الذاتي، وهذا ما لا نرى تقدماً، ولو طفيفاً، لإنجازه بقدر ما نرى العكس.